بيان من أجل أخلاق عالمية

التطلع إلى عالم ما بعد وباء كورونا يقتضي البحث عن النصوص الكبرى، سواء أجاءت بلغة السماء، أم بلغة أهل الأرض، من أجل أن يعيشوا كمواطنين في هذا العالم، الذي صار يعني الجميع، وتسهر عليه كافة الشعوب والأمم والدول والمؤسسات، على تنوعها واختلافها، العالمية تقتضي الإنسانية.
من جملة الوثائق التي صدرت من رحم اللحظة المعاصرة، في كل زخمها وتجلياتها، وثيقة «بيان من أجل أخلاق عالمية»، التي اجتهد اللاهوتي السويسري هانز كونغ على إعدادها وصياغتها، بناء على قناعة دينية وروحية وجدانية، تولَّدت له منذ نصف قرن، كأفضل رؤية تسعف الإنسان في هذا العصر. فإذا كان القرن العشرون، عصر الدول والمؤسسات الاعتبارية والمعنوية، التي في الغالب كانت تبحث عن حلول قطاعية جزئية، وتعنى بقطاع على حساب قطاع آخر، فإنه آن الأوان إلى صياغة بيان عالمي يقف على الظاهرة الإنسانية برمتها ويقدمها كمسألة تعني الناس جميعا. وقد صدرت وثيقة «إعلان من أجل أخلاق عالمية» في سبتمبر/أيلول 1993 في مدينة شيكاغوالأمريكية، عن برلمان ديانات العالم، حضره ما يناهز 8000 مندوب.
العالم صار قاربا واحدا لكل سكان المعمورة، تتهدده الأخطار من كافة النواحي، سواء أَكانت عسكرية أو مدنية، أَتعلقت بالإنسان أو بالطبيعة، إن في الأرض، أو في السماء، فضلا على الكوارث السياسية والاقتصادية. كل ذلك حمل الإنسان المعاصر على إعادة تعريف الأمانة التي حملها الإنسان، كما جاء في القرآن الكريم، بالقدر الذي يتسع لها كاهل الجميع. تزداد التقوى مع ازدياد الشعور بالخطر، لعلّ بيان من أجل أخلاق عالمية يفيد، من حيث أنه يقدم رؤية نبوية على قدر السياق الذي يمر به العالم. إن الأخلاق العالمية ترادف عند الأب هانز كونغ الرؤية الدينية الروحية والمعنوية، التي يجب أن يستند إليها الجميع من أجل تلافي وتفادي الأخطار المحدقة بكوكبنا الأرضي، من كل الجوانب والميادين: الاقتصاد، التطرف الديني، الفساد الأخلاقي والسياسي، الخصومات الأيديولوجية، أسلحة الدمار الشامل، الإبادات الجماعية، وليس أخيرا الفيروس العالمي كوفيد ـ 19، كلها تحديات للناس كافة، الأمر الذي يستدعي مرجعية عالمية للناس كافة أيضا، والتجاوب معها بالاستعداد الدائم والمتواصل بيقظة الضمير، وفطنة الوعي المشترك، وكما جاء في الوثيقة «احترام كافة الكائنات الحية، البشرية منها والحيوانية والبيئية، والاهتمام بالمحافظة على الكوكب الأرضي، من حيث الهواء، الماء والتراب».

العودة إلى الذات تعني امتلاك الوعي القادر على التجاوب مع بني الإنسان، وآيات الكون العظيم، كما أوصت به الأديان السماوية

جاءت فكرة البحث عن القاسم أو المشترك العام بين مختلف ديانات شعوب العالم، لدى اللاهوتي هانز كونغ ، من خلال حَدْسه بالوضع الخطير الذي يمكن أن تتطور إليه العلاقات الدولية، وصراع الشعوب مع حكّامها، ومع قوى الظلم والشر في معمورة الكرة الأرضية. فهو رجل دين كاثوليكي، درس وبحث في أصول الرسالات السماوية والأرضية، وصلة ذلك بالحركات الأصولية، والتزمت المذهبي والديني، وما يعرف عند الكاثوليك بالدوغمائيات. وراح بعد ذلك ينتقد تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، كخطوة أولية للانفتاح على سائر الديانات وثقافات شعوب العالم، التي آلت إلى حالة تنُوس بين العيش المشترك أو الدمار، وعليه، فإن بيان الأخلاق العالمية، رؤية عالمية في زمن العولمة ومتقدمة على كل الإصلاحات التي شهدتها الكنيسة الرومانية طوال عهدها الطويل، خاصة منذ أن وجّه الرّاهب الألماني الكبير مارتن لوثر بيانه الإصلاحي في القرن السادس عشر إلى الكنيسة البابوية في روما، وتأسيسه لما صار يعرف بعد ذلك بالمذهب البروتستانتي. وهكذا، وفي المحصلة المكثفة لبيان من أجل أخلاق عالمية هو أن تحقيق سعادة الإنسان مرهون بتحقيق سعادة الناس كافة والإنسانية جمعاء، في كل مناطق العالم على ما تظهر ذلك نشاطات المؤسسات العالمية، الحكومية منها وغير الحكومية، ومنظمات المجتمع المدني، والمبادرات الذاتية والتطوّعية، التي كشفت أيضا بداية يقظة في الضمير البشري والأممي، من حيث السعي إلى إسعاف الناس، البيئة والحيوان من الأضرار الناجمة عن التسلط والعدوان والمعاملات الأنانية. واليوم كما جاء في البيان، لا بد من انعاش الروح بثقافة التأمل والصلاة، والفكر الوضعي، العيش وفق مبادئ الأخلاق العالمية، في نطاق من التفاهم المشترك، والاعتماد على التبادل، حسب أنماط وطرق حياة كفيلة بترقية سعادة وهناء المجتمع واحترام سلامة الطبيعة».
في ظل الوعي الجديد بحقائق الأشياء والكلمات، التي تزيدنا إدراكا للعلم والتاريخ والمستقبل، صرنا ندرك أكثر الوحي القرآني، ككتاب للناس كافة، وذكر حكيم للإنسانية جمعاء، وكلمة الله التي تحتاج إلى التبليغ المتجدد، مع توالي الحقب والأزمنة، ولم تكن مقتصرة على عهد الصحابة، ولا تتوقف معانيه عند لحظتهم، بل تُطْلَب معانيه ونظمه المعرفية لدى الأجيال القادمة، على ما شهدنا في حضارات الفرس والترك، والأندلس واليوم وغدا أوروبا وأمريكا. وعليه، مركزية المنهاج القرآني، أو الخطاب الديني المعاصر يظهر في القدرة على تجاوز القوميات والأصوليات والمذهب «الحق» والفرقة الناجية.
«بيان من أجل أخلاق عالمية»، فرصة رائعة للعودة إلى الذات، على ما نلاحظ في زمن كورونا، الجميع ملازم لملاذه ومنزله، حيث تنزل روحه في قوتها وإمكاناتها. العودة إلى الذات تعني من جملة ما تعني امتلاك الوعي القادر على التجاوب مع بني الإنسان، وآيات الكون العظيم، كما أوصت به الأديان السماوية، كما تعني أيضا الخروج من شرانق المذهبيات المسيّجة، والأطر العقائدية المتَكَلّسة والنظم الفكرية الميتة والوطنيات القاتلة، فضلا عن الهويات المتناحرة. فرصة الأخلاق العالمية في خاصيتها الإنسانية توفر مجالا لاستلهام القيم الحيوية، والمثل الإيجابية، والأفكار المعقولة، لا يهم ما إذا كانت عقلانية أو غير عقلانية. فالأخلاق العالمية، مجال معنوي حيوي وأدبي يسع الإنسان كاملا، له القدرة على الاستئناس بنفسه ولنفسه، تبعده عن الظلم والاعتداء، وانتهاك حياة وأموال وحقوق الآخرين.
مواطنو العالم المتجه إلى التَّشكل في سياق الأخلاق العالمية، هم من بلغوا درجة من التواضع والورع، ومن الوعي بأن البساطة والحياة العادية هي آخر ما يمكن أن يحققه الإنسان في هذه الأرض، ويدرك أن معيار الخير في الدنيا والنعيم في الآخرة هو ذات مكتفية بذاتها، وتدرك في الوقت ذاته ذاتية إخوانه الآخرين، لأن مثل هذا الإنسان مرشح دائما إلى أن يتنقل في العالم، ويبني مجاله الجديد مع من يقاسمهم الخصائص الأخلاقية نفسها. وقد تحقق الكثير لمن يحسن النظر إلى ما يحدث في عالم لا يزال يطغى عليه إعلام يُغَطّي ما يجري من دمار وخراب وأزمات وحروب، كمشاهد حصرية.
ملايين من المسلمين في أوروبا وأمريكا يعيشون حياتهم في صورتها العادية، لكن كل الإعلام يحرص على شد الوعي الغربي دائما على الربط بين الإسلام والإرهاب.

 كاتب وباحث جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية