1
(حتى عندما بدأتُ في استدراج كائنات الغابة إلى كتابي، احتجتُ لبياض ثلج الشتاء كله لقمصانها).
منذ أن وصلتُ لبيت هاينريش بول (ديورين- ألمانيا- 2012) للإقامة، ولامستُ حجرَ وأخشابَ البيت، ولمحتُ بقايا حياة الكاتب من وراء الزجاج في مكان إقامته الأخيرة، شعرتُ بأن ثمة حواراً غامضاً عميقاً، يبدأ بيني وبين إنسانية هاينريش بول. وأخذ هذا الشعور ينمو ويزدهر يوماً بعد يوم. وبعد أن رأيتُ الصور التي التقطتها ابنتي طفول للحياة، حياتنا هناك، أمسكتُ بناصية الحوار وهو يتحقق. وتوضحتْ رغبةُ التحية التي رغبنا معاً، ابنتي وأنا، تقديمها لهذا الكاتب، وهو يستضيفنا في بيته الذي غادره باكراً.
2
ليس ارتباطاً بالمكان فحسب، ولكنه تقاطعٌ حيويٌ بين حياتي وتجربته. ذلك هو السر الذي يستعصي على التفسير. لقد أصبح هذا الكاتب لصيقاً بما يمكن أن أسميه تجربتي في الحياة والكتابة. ثمة رغبة غامضة في البحث عن أقران روحيين.
بهذا المعنى أحب أن أسمي علاقتنا صداقة أدبية وإنسانية معاً.
3
ما يمكن أن يفتح تجربة هاينريش بول على حركة المجتمع العربي في المطلق، هو المشترك الإنساني، وما يجعلها تضيء حيوية واقعنا العربي، الآن، عندما ندرك الحرية العميقة، أو ما يمكنني وصفه بالحرية الحرة، إزاء القضايا السياسية والاجتماعية بعنفوانها الإبداعي. وهذا ما يميز موقف هذا الكاتب من قضايا العدل الاجتماعي وحريات الفكر والرؤى السياسية، خصوصاً تجربة الحرب والموقف منها، بمعزل عن العنصر واختلاف الأجيال والتمسك بحق الإنسان في المطالبة بحقوقه ضد الاضطهاد والعسف. بهذه الرؤية يمكنني إدراك الضوء الساطع الذي يبسطه أدب وفكر هذا الكاتب أمام التجربة العربية، ثقافياً واجتماعياً، وسياسياً بشكلٍ خاص. أنظر مثلاً لموقفه الصارم من جماعة «بادر ماينهوف» اليسارية، التي انتصرَ لحقها في التعبير والدفاع عن نفسها، في بداية السبعينيات، في ذروة ممارسة العنف الثوري. وقد تحمّل تهمة التعاون مع تلك الجماعة. أكثر من هذا فإن له موقفا شخصيا ناضل فيه من أجل حق أحد الفلسطينيين للبقاء في ألمانيا، عندما بدأت حملة ضدهم بعد عملية ميونخ ضد الفريق الإسرائيلي. لحظات إنسانية كهذه تجعل هاينريش بول وأدبه جسراً حيوياً مع العالم برمته، وليس العرب فحسب. يمكن اعتبار المكان هو النص، والزمان هو الشخص. من باب اللهو بالأسطورة وقرينها. لقد رأيتُ إلى هاينريش بول كشاهد معاصر على حقبة كاملة من العسف العالمي ضد الإنسان.
4
في كل ما قرأت له وعنه، اعتقد أن تجربته الإنسانية والفكرية، ومواقفه السياسية جزء أساسي لا ينفصل عن كتاباته.
ولكي يعرف الجيل الجديد هذا الكاتب يتوجب معرفته كاملاً، أعني خصوصاً سيرته وسلوكه الحياتي ومواقفه التي اتخذها في مراحل مختلفة من حياته.
فهو نموذج نادر للكاتب المثقف، الذي لا حدود عنده بين النص والشخص في الحياة.
5
لا أزعم أنني على معرفة كافية بالأدب الألماني، وبعض الترجمات التي قرأتها منذ الستينيات حتى الان، ربما وضعتني في هامش المشهد الثقافي والأدبي في ألمانيا، منذ بعد الحرب العالمية الثانية، مروراً بفترة الحرب الباردة، وتجربة جدار برلين حتى هدمه.
والحق أنني بدأت في قراءة هاينريش بول خصوصاً بعد وصولي إلى بيته. وإذا صح لي القول، فقد رأيتُ في هذا الكاتب عنصر الأديب المناضل، بدون التنازل عن شرط حريته كمبدع، وبدون الخضوع للأيديــــولوجــيا الحزبية، وعدم الامتثال المبدئي للشعارات السياسية اليومية.
(موجة تسأل عن نوع النبيذ الذي يتناوله)، وعرفتُ عن مواقفه الصارمة ما يجعله خصماً للظلم والعسف في كل العالم، تلك هي جماليات الموقف النضالي الإنساني الفذّ.
6
فإذن، لدى الغرب الهموم الموضوعاتية الحياتية ذاتها، كلما تعلق الأمر بالكتابة. فليس لديهم اختلافٌ عن النوع في هواجسنا، ربما اختلفوا في درجة ذلك الاهتمام، غير أن الكاتب في كل مكان سوف يواجه الأسئلة ذاتها وهو يتصدى للكتابة، كما لو أن الكاتب مسؤول، في كل مكان، عن تغيير العالم بكتابته.
السيد هاينريش بول اكترث بما يكفي بتفاصيل الحياة من حوله، حتى أن البعد النضالي في حياته، هو من بين أجمل ملامح تجربته. لكن بدون أن يبدي خضوعاً للشرط السياسي، على الرغم من الانهماك المباشر في الممارسة اليومية للعمل السياسي، ومنافحته العلنية للدفاع عن حق النضال لمن يتصدى لذلك النضال، من غير أن يبدو مقتنعاً كلية في تفاصيل ذلك النضال. فهو مثلاً سوف يصعب على سلطات الأمر الألمانية، في ذلك الوقت، اعتباره إرهابياً، مثلما وصمت جماعة «بادر ماينهوف» على الرغم من دفاع هاينريش بول عنها عملياً. ذلك هو الوعي الإنساني الذي يقدر الكاتب التحصن به، لكي يحقق المعادلة الجهنمية بين الكتابة الحرة، واعتناق الحرية في الحياة.
٭ شاعر بحريني