في قديم الزمان، تطورت الدول الحديثة مستندة إلى سيطرة الحكام ونخبهم على موارد المجتمع وتمكنهم من جباية الضرائب من الناس واحتكارهم لأدوات توزيع العوائد على القطاعات الشعبية. واستوى في ذلك الملك مطلق الصلاحيات ومن ورائه بلاطه الأميري، والقائد العسكري ومعه جيوشه بعدتها وعتادها، والحاكم الأبوي المعتمد على طاعة القبائل والعشائر وبطونها، والزعيم صاحب الكاريزما (الدينية كما الوضعية) المؤثرة في الأتباع والمحفزة لهم للسير خلف «المخلص» دون شكوك أو تساؤلات.
في سالف العصر والأوان، سالت الكثير من الدماء وتكررت ثورات وانتفاضات الناس على نحو دفع بعض الحكام إلى التنازل عن شيء من سيطرتهم على موارد المجتمع وإشراك غيرهم في تحديد حصص الضرائب وطرائق جبايتها وإلى إقرار مبدأ الرقابة على توزيع العوائد لضمان امتناع نخب الحكم عن المحاباة الشاملة لقطاعات شعبية صغيرة أو التورط في التهميش الكامل للأغلبيات اقتصاديا واجتماعيا. وفي المقابل، تمسك حكام آخرون ونخب أخرى بالصلاحيات المطلقة وعملوا على المزاوجة بين توظيفهم للإجراءات القمعية والعقابية لإخضاع الأغلبيات المضارة وبين ممارسة التزييف الجماعي لوعي الناي بالترويج لشرعية وجودهم على رأس الدولة (السلطة) باستدعاء أسس تاريخية (الأسر المالكة) أو تقليدية (رؤساء القبائل) أو دينية (ادعاء مهدي منتظر أو جماعة ربانية لامتلاك الحق الحصري للحديث باسم الرب والطريق القويم) أو مقولات ديماغوجية (إصرار الزعماء أصحاب الكاريزما والحكام التواقين إلى ادعاء الكاريزما على تمكنهم بمفردهم من قدرات خلاصية تستطيع إنقاذ مجتمعاتهم من ظروف استثنائية يصطنعونها هم).
جرت مياه التاريخ في أنهار عديدة، وألقت بقضها وقضيضها على شطآن مديدة.
فولدت من رحم التفاعل بين ثورات وانتفاضات الناس وبين تنازلات الحكام والنخب وفي سياق صراعات دموية وبأثمان مجتمعية باهظة دول «سيادة القانون» التي سنت دساتير وقوانين اتجهت لأن تجعل من الناس تدريجيا مواطنين ذوي حقوق وحريات وواجبات متساوية. ثم اصطفت تدريجيا المجتمع كالجهة الرئيسية المخولة تحديد حصص الضرائب، وطرائق جبايتها، ونسب وأشكال توزيع العوائد على المواطنين عبر سلطات نيابية مستقلة (تمثل الأغلبيات والأقليات) وسلطات قضائية محايدة (تسهر باسم المجتمع على الرقابة والمساءلة والمحاسبة). وأتبعت ذلك بتشكيل تدريجي لدوائر الحكم (السلطة التنفيذية) ككيان مركب بخاناته من يختاره المواطن (المسؤول المنتخب) وبها أيضا من يأخذ مكانه وفقا لاعتبارات التخصص والكفاءة وأحيانا لاعتبارات أخرى (المسؤول المعين)، كما تنتظم في كافة الخانات مؤسسات نظامية (عسكرية وأمنية) وغير نظامية (بيروقراطية ومدنية) تخضع لرقابة السلطات النيابية والقضائية وتلزمها الدساتير والقوانين كما تلزم مسؤولي العموم (بمنتخبيهم ومعينيهم) بخدمة الصالح العام وبإتباع مبادئ الشفافية والنزاهة وبالامتناع عن استغلال المنصب العام لمصالح خاصة.
أما حين تمسك الحكام ومعهم النخب بالوقوف في وجه المطالب المشروعة للناس وبالمزاوجة بين القمع وبين تزييف الوعي بغية فرض السيطرة والإخضاع ولم تردعهم عن شبق الاستئثار بالسلطة عوامل كالفقر المتراكم والدماء المسالة والدمار المنتشر (خاصة في أعقاب الثورات والانتفاضات والهبات الشعبية)، فاستمرت الممالك والسلطنات والإمارات وفيما بعد الجمهوريات كدول «استبداد» لم تر في الناس سوى «رعايا» للحاكم عليهم إما القبول التام لقراراته وسياساته بمعزل عن مضامينها ونتائجها أو انتظار التعقب والتنكيل والعقاب. وباتجاه المجتمع، بعيدا عن جباية الضرائب وباستثناء النخب التابعة للحكام والفئات صغيرة العدد المتحالفة معهم، عممت الدول الاستبدادية نظرة سلبية جوهرها كونه «شرا لابد منه» يتعين أن تدار شؤونه بالحديد والنار دون إقرار لمفهوم الصالح العام، ويدفع إليه لسد الرمق بشيء من العوائد دون اعتراف بمفهوم الحق العام، وتنزع عنه القدرة على رقابة ومساءلة ومحاسبة الحكام (أي السادة) الذين لا قبل للرعايا (أي العوام الجهال بحسابات التاريخ أو التقاليد أو القوامة الدينية أو الخلاص القادم) بإدراك دورهم في حماية الدول والحفاظ على مقومات ومرتكزات وجودها. تدريجيا أيضا عملت ممالك وسلطنات وإمارات وجمهوريات الاستبداد، وبغض النظر عن مدى إنشائها لدساتير وقوانين حديثة وتشييدها لمؤسسات نظامية وغير نظامية تحاكي الهياكل المؤسسية التي طورتها دول سيادة القانون، على الإبقاء على ممارسة الحكم بمكوناتها المرتبطة بالسيطرة على موارد المجتمع وجباية الضرائب وتوزيع العوائد كأمر فردي يرتبط عضويا بالحكام ونخبهم غير الخاضعين لرقابة نيابية مستقلة أو قضائية محايدة وتساعد به مؤسسات نظامية وغير نظامية منتقاة يجزل لأفرادها العطاء (الملكي أو السلطاني أو الأميري أو الجمهوري) وترفع درجات على غيرها من المؤسسات.
تنتفي الموضوعية عن كل توصيف للمآلات التاريخية لدول سيادة القانون، وهي تحضر اليوم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، يدعي حدوثها كتطور بياني وأحادي الاتجاه وشامل المضامين نحو اعتماد مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والديمقراطية النيابية والمشاركة الشعبية في صناعة القرار العام (عبر أدوات كثيرة أبرزها الانتخابات الدورية النزيهة ومن خلال كيانات متعددة أبرزها منظمات المجتمع المدني والنقابات والأحزاب السياسية) وخضوع السلطة التنفيذية لرقابة السلطتين التشريعية والقضائية ولرقابة الرأي العام وبداخل خانات السلطة التنفيذية خضوع المسؤول المعين والمؤسسات النظامية كالجيوش والأجهزة الأمنية لرقابة المسؤول المنتخب والمؤسسات المدنية كدواوين المحاسبة الحكومية. فقد قوم ميلاد دول سيادة القانون دون هوادة، ونشبت الحروب الأهلية والإقليمية والعالمية كامتداد للصراع بين حكام ونخب وقوى اجتماعية واقتصادية دافعت عن رؤى متناقضة لتنظيم العلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة (كالصراع بين الفاشيين والديمقراطيين قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية 1939-1945)، وتكررت في أرجاء فسيحة انتكاسات دول سيادة القانون وانهيار حكوماتها من جمهورية فيمار الألمانية (1919-1933) التي أسقطها النازي والملكية الدستورية في مصر التي أنهتها حركة الجيش في 1952 إلى روسيا الاتحادية التي انسحبت من المسار الديمقراطي مع بزوغ البوتينية (في نهاية تسعينيات القرن الماضي) ومصر المعاصرة التي انقلبت على التحول الديمقراطي في 2013. ومازالت مقاومة مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والديمقراطية النيابية وغيرهما تؤثر بقوة في الواقع الراهن لبعض دول سيادة القانون، على النحو الذي يعبر عنه إن صعود اليمين الشعبوي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية أو انقلاب بعض الحكومات المنتخبة في أوروبا الشرقية والوسطى (المجر نموذجا) بافتئاتها على حقوق الناس (خاصة اللاجئين منهم والمهاجرين) على قيم الحرية والمساواة والعدل التي تمثل المرتكزات الأخلاقية للفكرة القانونية.
وبالمثل، تنتفي الموضوعية عن كل توصيف لأحوال دول الاستبداد يتعامل مع غياب الحرية كقدر محتوم لا فكاك منه ومع حضور القمع كتعبير سرمدي عن إخفاق غير قابل للإنهاء لجهة إجبار الحكام على التنازل عن شيء من سلطاتهم وصلاحياتهم ولجهة الصياغة الدستورية والقانونية والمؤسسية لعقد جديد يجعل من الرعايا مواطنين ومن المجتمع مصدر السلطة ومعين شرعيتها ومن الدولة كيان شفاف هدفه خدمة الصالح العام وله في هذا الإطار (وفي هذا الإطار فقط) حق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية. فأبواب الخروج من الاستبداد لم تكن دوما مؤصدة ولم يتوقف أبدا البحث عن سبل للنجاة من هاوية الفقر وإسالة الدماء والدمار التي تسبب بها حكم الفرد، وإلا لما استطاع بعض الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحويل الملكيات المطلقة إلى ملكيات دستورية ونجح الكثير من الأمريكيين اللاتينيين في القرن العشرين في التخلص من سيطرة المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية على الحكم وبناء حكومات ديمقراطية وقدرت بعض الشعوب الآسيوية والإفريقية في القرن العشرين أيضا على تجاوز حكم الفرد ذي الأسس التاريخية أو التقليدية أو الدينية أو الديماغوجية.
كذلك لم تغب مقاومة الاستبداد (فكرا وفعلا) عن بلاد العرب التي طال فيها أمد حكم الفرد إن في ممالك وسلطنات غير دستورية أو في إمارات قبائل وطوائف أو في جمهوريات العسكرتارية ومدعي القوامة الدينية، ولم تحدث ثورات وانتفاضات 2011 أو تتبلور مطالب البدايات المتعلقة بالحرية وسيادة القانون وتداول السلطة والعدالة الاجتماعية بمعزل عن عقود خلت من النضال الديمقراطي ومن الدفاع عن مواطنة الحقوق المتساوية ومن الفشل الذريع لدول الاستبداد.
٭ كاتب من مصر
كوتيشن: مازالت مقاومة مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والديمقراطية النيابية وغيرهما تؤثر بقوة في الواقع الراهن لبعض دول سيادة القانون، على النحو الذي يعبر عنه إن صعود اليمين الشعبوي في أمريكا وأوروبا الغربية أو انقلاب بعض الحكومات المنتخبة في أوروبا الشرقية والوسطى
-يفرض علينا الزميل العزيز أن نعلق على ما يكتبه، فهو مصرّ ألا يقترب من الجريمة الدموية التي ارتكبها العساكر القتلة في مصر ، ومعهم نخب ضالة ومزيفة أبت إلا أن تبيع نفسها في سوق العبودية من أجل أغراض تافهة، وكراهية مقيتة للإسلام والمسلمين. مع تحريض ودعم النازية اليهودية الغازية في فلسطين المحتلة والأعراب الأشد كفرا ونفاقا في الجزيرة العربية، وتأييد القيادة الهمجية للعالم الاستعماري في الغرب.
صحيح أنه سالت دماء كثيرة، وتكررت ثورات وانتفاضات في شتى أرجاء العالم وخاصة أوربة التي اقتتل فيها الجرمان والوندال، والقوط والنورمانديون، واللاب والكلت، وغيرهم ممن صنعوا مجازر من أبشع المجازر التي عرفها التاريخ، وكلها من أجل السلطة والسيطرة على بعضهم بعضا، ولكنهم في النهاية وجدوا أن التعايش السلمي وفقا لعقد اجتماعي يحقق الرخاء والازدهار، ويجعلهم يتفرغون لاستعمار الشعوب التعيسة-أعني شعوبنا الإسلامية ونهبها وتدميرها، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير بعد أن فككوا الخلافة العثمانية، وأشاعوا الفتن في أرجاء بلانا البائسة، وأقاموا كيانا استيطانيا وحشيا على أرض فلسطين.
2- ما يحدث في أوطاننا ليس صراعا طبيعيا، وإنما صراع مصنوع يقوم به وكلاء الغرب الاستعماري، وصناعته استغرقت قرونا وليس عقودا، ونجح في تخليق نخب تدين بالولاء لمن صنعها وخلقها ورباها ونماها، وتلك فيما أظن معضلة أمتنا البائسة.
إن جمهورية الضباط أو العسكرتاريا نبت مصنوع لتحقيق أهداف الغزاة القتلة، والقيام نيابة عنهم بما يريدون، وبالفعل سلموا الأرض والعرض والثروة لمن صنعهم، وقاموا بقهر شعوبهم وإذلالها بأشد ما كان يفعله معهم الغزاة القتلة بأنفسهم. ومن المفارقات أن الذين قادوا الثورات والمقاومة ضد الغزاة القتلة ووكلائهم المحليين كانوا من حملة القرآن الذين لم يحكموا بلدا عربيا قط، وإن حكم الشيعة في إيران بعد تضحيات غزيرة، وسوغ حكمهم المذهب أو نظام الطائفة.
3- يقودنا هذا إلى ما ورد في الاقتباس أو الكوتيشن الذي ورد آخر المقال. فما يسمى اليمين الشعبوي وصعوده في أميركا وأوربة الغربية (وروسيا كذلك)، هو في الحقيقة تعبير حي مباشر عن الروح الهمجية التي حركت الجموع الصليبية نحو القدس قبل عشرة قرون تقريبا. إن ما يسمى اليمين الشعبوي، يجعل غايته الأولى هي مكافحة الإسلام وطرد المسلمين من أوربة تمهيدا لما سيأتي، وهو يقف بكل قوة إلى جانب النازية اليهودية في فلسطين المحتلة. لقد سكتت أوربة مؤقتا بعد أن دمرتها الحربان العالميتان على وجود المسلمين بها لحاجتها إلى الأيدي العاملة، وتعويض الرجال الذين فقدوا في أتون القتال والدمار، وبعد أن استعادوا الهدوء والطمأنينة، وضمنوا الازدهار، وإقامة الخلافة الأوربية، فلم يعد هناك مسوغ للإبقاء على المداهنة أو استخدام لغة مجازية، وصارت اللغة المباشرة والقرارات العملية هي منطق ترامب وجونسون وزعماء اليمين الشعبوي، والقادم أسوأ.
4- اليوم نواجه في بلادنا حكما عسكريا أو منشاريا فقد كل صلة بالإنسانية، لأن سادته الغربيين يلهبون ظهره بسياط العبودية، وهو من داخله يطمح إلى أن يجلس على الكرسي “المخلع” أطول مدة ممكنة، فمن وراء الكرسي أموال حرام كثيرة، ولقطات تلفزيونية وصحفية كثيرة. إنها خيانة لا تخفى. عيد سعيد يا زميل.
الغرب لا يريد لنا الديمقراطية. ما يريده لنا هو حكم العسكر او الجماعات الفاسدة… و العصا لمن عصى….