تعتبر رواية «النغل» للروائي غسّان الصامتي عملاً أدبياً غنياً ومتعدد الأبعاد، حيث يتقاطع فيها الأسلوب الروائي المعقد مع التفسيرات الرمزية العميقة. في هذه الرواية، يبرز الصراع بين الأجيال والتجربة الإنسانية بطرق تعكس البُعد الفلسفي والرمزي للرواية، ويُعتبر العلاقة بين الراوي وجدته من المحاور المركزية التي تجسد هذا الصراع.
من خلال تحليل الأسلوب الروائي في «النغل» يتضح كيف ينجح الصامتي في خلق عالم أدبي يبرز تباين الصراعات والأفكار، من خلال تقنيات سردية متميزة. كما أن أحد العناصر الرئيسية التي يبرزها أسلوب الصامتي هو الاستخدام المكثف للتفاصيل الوصفية التي تجعل المشاهد والأحداث نابضة بالحياة. إن التعبيرات القاسية مثل «ملاعين سودا» و»ابنة العاهرة» لا تقتصر على تعزيز القسوة والتوتر في الرواية فحسب، بل تلعب أيضا دورا في تشكيل التجربة العاطفية للقارئ. عبر هذه اللغة القوية، يتفاعل القارئ بشكل مباشر مع الأحداث ويشعر بتأثيراتها، ما يعمق من فهمه للتوترات الداخلية والخارجية التي تواجهها الشخصيات. يبرز هذا الأسلوب بشكل خاص في مشاهد تفاعل الراوي مع جدته، حيث تكون التفاصيل الوصفية أداة فعالة لنقل الصراع بين المعرفة التقليدية والفضول الفكري.
يمتاز الصامتي باستخدام تقنيات سردية تُسهم في تقديم الأحداث من زوايا متعددة. هذه التقنية تُمكن الرواية من تقديم تجارب متنوعة تتشابك وتتقاطع، ما يعزز من تعقيد النص، ويضيف عمقا للتجربة القرائية. من خلال هذه الأسلوب، يستطيع الصامتي أن يقدم تباينا بين وجهات النظر المختلفة ويتيح للقارئ استكشاف الرواية من زوايا متعددة. هذا التقديم غير التقليدي للأحداث يعكس الصراع الداخلي للشخصيات وتفاعلهم مع العالم من حولهم بطريقة تثير التأمل والتفكير العميق. كما تلعب الرمزية دورا بارزا في «النغل» حيث يستخدم الصامتي الرموز للتعبير عن معاني متعددة، وتقديم تفسيرات غير مباشرة للأحداث والشخصيات. العنزة البيضاء وجديانها السوداء، على سبيل المثال، تصبح رمزا للتناقضات الأساسية في الحياة، مثل النقاء والفساد، أو البراءة والفوضى. هذه الرموز تُسهم في تعميق النص وتوفير مجال واسع للتأويلات المختلفة، ما يعزز من تعقيد الرواية، ويزيد من قدرتها على إثارة الفكر والتفكير النقدي. الرمزية في الرواية ليست مجرد إضافة جمالية، بل تُعتبر جزءا أساسيا من بناء النص وتقديم معانيه.
تُظهر رواية «النغل» مهارة الصامتي في تقديم الشخصيات بطريقة تعكس جوانبها النفسية المعقدة. شخصيات الرواية ليست أحادية البعد، بل تتسم بالازدواجية والتناقض، ما يعكس الصراع الداخلي والخارجي الذي تعاني منه كل منها. الجدة، على سبيل المثال، تُعتبر تجسيدا للمعرفة التقليدية والسلطة، بينما الراوي يمثل جيلا يبحث عن الفهم العميق والتفسيرات الحديثة. هذا التباين يعكس صراعا بين القيم التقليدية والبحث عن الجديد، ما يُبرز التعقيد الداخلي للشخصيات ويوفر للقارئ فرصة لفهم الصراعات البشرية بشكل أعمق.
الأسلوب السردي في «النغل» يتسم أيضا بالقدرة على بناء مشاهد حوارية مكثفة وفعالة. الحوارات بين الشخصيات ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل تُسهم في الكشف عن الدوافع الداخلية والصراعات العاطفية. الحوارات تُبرز الصراعات الداخلية وتساعد في بناء عمق الشخصية وتطورها، ما يعزز من المضمون الفلسفي للرواية. من خلال هذه الحوارات، يعكس الصامتي مدى تعقيد العلاقات بين الشخصيات وكيفية تأثير هذه العلاقات على فهمهم للعالم من حولهم.
شخصية «الفالح» الاستثنائية تقدم نقدا لاذعا للظلم الاجتماعي والاقتصادي من خلال تصويرها كشخص ينغمس في عادات سلبية مثل السكر والتدخين ولعب الورق. يظهر التباين بين حياة النساء البائسات في الأرياف وحياة الرفاهية التي يعيشها الرجال في الحوانيت كوسيلة لتسليط الضوء على الفساد والأخلاقيات السلبية التي تؤثر على المجتمع. هذا التباين يعكس تأثير الظلم الاجتماعي على القيم الفردية والأخلاقية ويبرز كيفية تعزيز السلبيات الاجتماعية، من خلال الفساد والتمييز، كما يظهر النص كيف يمكن أن يكون الأدب أداة قوية لانتقاد الفجوات الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز الوعي الاجتماعي.
في البيئة التونسية، يُعتبر «النغل» رمزا للتنوع والتكيف مع الظروف القاحلة. استخدام هذا الرمز في الرواية يعكس تعقيد الشخصيات وتطور الحبكة بطرق غير متوقعة، يتناول النص كيف يمكن أن تؤثر البيئة على الأفراد، خاصة في ظل غياب الوالدين وتأثير الجدة على حياة الراوي، هذا الاستكشاف يعكس تأثير البيئة والتربية على الشخصيات، وكيف يمكن أن تؤثر الجدة كركيزة أساسية في حياة الطفل، من خلال طرح تساؤلات حول الصمود والتكيف، يعكس النص مدى تأثير البيئة على الأفراد وكيفية تشكيلهم من خلال التجربة البيئية.
رواية «النغل» للروائي غسّان الصامتي تُعد نموذجا للأسلوب الروائي الذي يعكس الصراعات الإنسانية والاجتماعية من خلال تقنيات سردية مبتكرة ورمزية عميقة. من خلال استخدام تفاصيل وصفية حية، وتوظيف الرموز لتقديم معاني متعددة، وتقديم الشخصيات بطرق تعكس جوانبها النفسية المعقدة، ينجح الصامتي في خلق عالم أدبي غني ومعقد. يبرز الأسلوب الروائي في «النغل» قدرة الصامتي على استكشاف التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها، ما يجعل الرواية نصا أدبيا يستحق التأمل والتحليل العميق. من خلال الجمع بين التفاصيل الوصفية، والرمزية، والتقنيات السردية المبتكرة، يُسهم الصامتي في تقديم نص أدبي يعكس الصراعات والتناقضات البشرية بطرق مبتكرة ومعبرة.
كاتبة لبنانية