بين الشعر والتشكيل

تُحيل كلمة تشكيل على مجال الفنون الجميلة وعلى فن الرسم تحديداً. ويشير تاريخ استعمال المصطلح داخل الثقافة العربية، إلى أن أول توظيف له بهذا المعنى المرتبط بما يعرف بالفنون الجميلة، كان سنة 1956 بنحتٍ من المشرفين على الصفحة الفنية في جريدة «المساء» المصرية لنعت ما كانوا ينشرونه من نصوص متنوعة، تخصُّ الفنون الجميلة والفنون التطبيقية والتربية الفنية. والمصطلح استحدثته الثقافة الغربية لوصف ما تراكم من حركية الإبداع الجمالي، بعد النصف الثاني من القرن العشرين، الذي تجاوز المعنى المتداول المشتق من الكلمة اليونانية (plastikos) أي فنّ صناعة النماذج والتماثيل؛ فقد توسع الإبداع الجمالي في الغرب، ليشمل مجموعة من الفنون التصويرية والتجسيدية، التي اعتمدت، إضافة إلى الشكل والحجم، مفاهيم تشكيلية أخرى أكثر تعبيرية كالضوء والحركة والتوليف والبصمة والأثر، ولهذا لم يعد اليوم في مجال الفنون يتحدثون عن الفن التشكيلي، وإنما عن فنون التشكيل بصيغة الجمع، ولإدراج أي إبداع في فنون التشكيل، تلزمه الخصائص التالية: الاشتغال على مادة مرنة قابلة للتشكُّل – امتلاك رؤية فنية تضفي على عناصر التشكيل المُنجَز قدرا من الاتساق والانسجام – قدرة المنجَز على الإيحاء بمعنى ما (خارج مربع اللوحة أو المجسم) الذي تقود إليه بلاغة التشكيل (سيمياء الألوان والخطوط والكتل والأحجام).
المتمعن في ما اعتبرناه مقومات جامعة لأجناس التشكيل يجدها مندمجة بالضرورة في فن الشعر، الذي تقوم مادته على:
أولا: اللغة التي من طبيعتها المطاوعة والقابلية للتشكُّل – تماما كما هو الشأن بالنسبة للألوان والخطوط والكتل في الرسم – عبر تراكيب إنجازية لامتناهية.
ثانيا: التخييل، باعتباره جوهر العملية الشعرية، الذي ينقل الذهن عبر البلاغة، إلى خارج التراكيب اللغوية المحسوسة (قراءة أو سماعا)، إلى عوالم رحبة من الأخيلة والعواطف والتمثلات.
إن الشعر، بهذه الخصائص، لا يمكن إلا أن يكون عملا تشكيليا؛ وحين نتحدث عن التشكيلية في الشعر يقول عز الدين إسماعيل «لا نعني مجرد استعارة طريفة حين ننقل الدلالة «التشكيلية» من ميدانها الأصلي في هذه الفنون التشكيلية إلى ميدان آخر، اصطلح على تسميته بالفنون التعبيرية، فعملية التشكيل قائمة في هذه الفنون وتلك على السواء. كل ما يمكن أن نستدركه من اختلاف هو أن التشكيل في الفنون التشكيلية حسي، في حين أنه في الفنون التعبيرية أميل إلى أن يكون وراء الحسي، بمعنى أن الفنان التشكيلي إنما يُشكِّل مادة، وينتج عملا، كلاهما تتلقاه الحواس تلقيا مباشرا، يحدث معه التوتر العصبي الذي تثيره المحسوسات، في حين أن الشاعر – رغم أن عمله يمكن كذلك أن تتلقاه الحواس، وأن يحدث التوتر العصبي المنشود – يتجاوز المحسوسات من حيث وجودها العياني القائم، إلى الرموز المجردة من كل ما للشيء المحسوس ذاته من خصائص وصفات».
الواقع أن تصور الشعر صنعة جمالية تمارس اللغة فنا لتشكيل المتأنق المفارق للمعهود من الأبنية والأوزان، حاضر بوضوح في وعي الثقافة العربية القديمة، في شقيها النقدي والإبداعي؛ فقد شبه العرب أشعارهم ببرود العَصْب، والحلل والمعاطف، والديباج والوشي، وأشباه ذلك. ولقبوا الشعراء بعبيد الشعر، لانكبابهم عليه بطول المعاودة والصقل والتفتيش. كما أن الحديث الواسع في كتب البلاغة عن النسج والنقش والزخرفة، والتنقيح والحياكة والتجويد… يثبت المنظور التشكيلي في تصور العرب لمفهوم الشعر. فيما كلام الشعراء لم يشذ في تاريخ القصيدة العربية عن هذا الفهم تمثُّلا وممارسة؛ فكثيرا ما وصفوا ما كتبوه بالبرد المنمنم، والوشي والشذر والنظم… وتحدثوا عن التسديد والتثقيف والتّحسين والتطريف والترهيف والترقيق.. لغة تعكس تصورا يكسِّر حدود الأجناس بين الشعر وفنون التطريز، على شاكلة ما نطالعه اليوم في اللغة المعاصرة، من قبيل: موسيقى الألوان، معمار القصيدة، أصوات اللوحة، إلخ.

الشعر العربي فن أنيق، فبقدر حرصه على المعنى حرص على متعة الشكل. وكان نزوع الشاعر العربي نحو التجريب المستمر في الصيغ والأبنية، أحد المقومات الثابتة في أساليب التشكيل الجمالي للقصيدة العربية طوال تاريخها المديد.

من البداهة إذن، في ما يخص طبيعة الشعر العربي، إثبات أن مبدعيه، وهم يتفننون في طرق صنع الأبنية والصور والأوزان، كانوا يفعلون ذلك وهم على وعي بأنهم بصدد ممارسة تشكيلية أداتها اللغة والإيقاع، إذ الواضح من ديوان الشعر العربي أن أحدا لم يشذ عن هذا الفهم، سواء ممن صنفهم النقاد في مدرسة الطبع، أو في اتجاه الصنعة. وهو الأمر الذي جعل ناقدا كبيرا من حجم نجيب محمد البهبيتي يعتبر أن «ملابسة الطبع للصنعة» أصل من أصول القصيدة العربية القديمة، والميل إلى التصوير أحد وسائلها النوعية في أدائها الفني.
ظل الشاعر عبر كل ما راكمه في تاريخ القصيدة العربية يتواصل بلغة التشكيل ويتفنن من خلالها في إنجاز لوحات فنية، بوساطة التصوير أو فنون البديع، أو عبر معادلات إيقاعية أو كاليغرافية باهرة؛ فعبر التصوير أنجز أشهر اللوحات البصرية في تاريخ الشعر العربي، كما هو مع بورتريه «هريرة» في قصيدة الأعشى و»المتجردة» عند النابغة على سبيل المثال. وبالبديع أنجز نماذج هندسية واضحة النقش اعتمدت آليتي التضاد والتوازي أداة للتشكيل، غدا معها البيت قطعة فنية بيِّنة التطريز موقعا وبنية وجرْسا. فيما الإيقاع كان على الدوام أقوى الجوانب استقطابا لجهد الشعراء التشكيلي، في تاريخ القصيدة العربية منذ نشوئها إلى الآن؛ فقد بدأ الإيقاع، على نحو ما يقرره الدكتور عبد الله الطيب، في أول أمره – قبل أن تعرف العرب الوزن- تشكيلا بسيطا قائما على الموازنة بين الألفاظ والمقابلة بين المعاني في تراكيب يخالطها شيء من الإيقاع، ثم تطور هذا الأسلوب شيئا فشيئا، إلى أن أصبح تشكيلا موسيقيا يطلب التقفية من طريقي السجع والازدواج. وبعد ذلك الموازنة بين أجزاء الأقسام في مواضع التركيب النحوية، وفي الهيئة الصرفية وفي الصيغ العروضية، ثم في مرحلة لاحقة إلى تكميل الوزن نفسه حتى صار كل قسم مساويا للآخر من جهة العروض… وعلى ذلك فإن تاريخ موسيقى الشعر العربي في واقع الحال تاريخ تجريبٍ لمعادلات وصيغ تشكيلية متجددة على الدوام، صنعت تراكما فنيا متصلا هو ما اصطلح عليه النقاد بموسيقى الشعر العربي، ولعل بنية الموشح، في سياق هذا التجريب المتجدد، إحدى المحاولات التشكيلية «الجريئة» في تاريخ هذه الموسيقى، التي نهض معمارها الفني على رسم هندسي وإيقاعي متميّز بيِّن التطريز يقوم على تقسيم النص إلى أبيات، بحيث يضم كل بيت دورا وقفلا وأسماطا، ويجري وزن الموشح على الخلط بين البحور، أو ينفلت عنها بزيادة حركة أو تفعيلة.. من ذلك يبدو أن الشاعر العربي كان مأخوذا على الدوام بالبحث عن صيغ مغايرة يكسر بها مألوف الشعر؛ نراه لا يفتر طوال تاريخ القصيدة العربية عن التجريب واللعب باللغة والأشكال، بما تتيحه إمكاناتها المرنة المطواعة صوتا وتركيبا، لإنجاز معادلات جمالية متجددة بنية، وخيالا، وقوالب موسيقية، وهيئة خطية للمظهر البصري للكلمة الشعرية؛ حتى وصل هذا التجريب في مراحل متأخرة من تاريخ القصيدة العربية، قبل تجربة الشعر الحر، إلى نوع من النقش المتكلف المضحي بالمعنى؛ كما ينقل الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار» عما عده غرر الصنعة الفنية في القرن الثامن عشر الميلادي.
خلاصــــة الكلام أن الشعر العربي فن أنيق، فبقدر حرصه على المعنى حرص على متعة الشكل. وكان نزوع الشاعر العربي نحو التجريب المستمر في الصيغ والأبنية، أحد المقومات الثابتة في أساليب التشكيل الجمالي للقصيدة العربية طوال تاريخها المديد.

٭ كاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية