■ يدرك جميعنا أن الكلام ملفوظا كان أو مكتوبا، إنما هو أداء لغوي فردي موسوم بـ«ذاتية» يمكن أن نستدل عليها في التعبير وطرائق الصياغة. ولكل من هذين النمطين خصائصه، فالملفوظ أو الشفوي ذو وفرة وغنى من حيث مكوناته الصوتية، إذ يتميز بقوة الصوت أو مداه وبسرعته أو بطئه وبنغمه أو نبرته. وهو لا يستدعي الأسماع فحسب، وإنما «المرئي» أيضا ويستخدمه لتوضيح فرق أو لإبراز معنى، إذ غالبا ما تلابسه حوامل أخرى إضافية ليست من طبيعته، مثل الإيمائية التعبيرية وحركة الذات المتكلمة وما إلى ذلك مما هو أمس في الغناء أو الشعر أو المسرح بالإيقاع. وهي سمات مميزة للكلام الشفهي قد تجلو بعض بواعثه وخفاياه. وقد تعرب عن خلجات صاحبه وبدوات نفسه. وقد تستوضح معنى وتستوفي فكرة. ولكنها تذهب بذهاب الكلام وتنطوي بانطوائه.
والكلام إنما يكون حيث لا يكون، فهو ينتمي أبدا إلى الماضي أو أن حقيقته في الماضي وليس في «الحال» أو الحاضر؛ ونحن ما أن نتكلم وننطق حتى يكون الزمن قد طوى كلامنا، إلا ما بقي منه من رسوم أو أصداء في الوجدان والذاكرة. فثمة حدود يقف الكلام إزاءها مصدودا لا تسعفه حركة ولا تنجده إيماءة أو سانحة من السوانح المرئية التي يترصدها المتكلم ويتذرع بها. من ذلك سرعة عطبه وتلاشيه، وهو الخاطف الزائل، ووضعه المحكوم بحضور آني مشترك: حضور صاحبه وسامعه معا، المقيد بـ«أنا/هنا/الآن» وشروطه السمعية الصوتية ووضعاتها. فهذه كلها أمارة من أمارات عوزه وعلامة من علامات دثوره.
فبأي ذرائع تتذرع الكتابة وبأي حيل تحتال، لتحفظ للكلام «الحي» ثروته وغناه؟ وكيف لها أن تعرب عن الأصوات الموقعة والتعبيرية الحركية، بكلمات مكتوبة تقيد الإدراك وتحصره في مجال واحد هو مجال المرئي؟
من الطبيعي إذن أن تتمخض الكتابة، خاصة كتابة القصيدة عن خسارة يصعب أن يعتاض عنها. فالكلمة المكتوبة، منظورا فيها من موقع الشفهية، لا تحوي خصائص ذات نظام صوتي ولا هي تقتضي مواكبة الحركي الإيمائي، ولا المقام الحميم الماثل للعيان حيث يتسرب المتكلم أيا كان (الشاعر والممثل والمغني وحتى السياسي) في كلامه ويفتن في أساليب خلق التأثير في سامعه، بما يملأ حواسه ويفعم شعوره.
السرقة الشعرية لم تصبح ظاهرة نقدية إلا في سياق الخصومة بين جرير والفرزدق (النقائض)، أي مع بدايات التدوين.
إنما الكتابة خلو من كل هذه السمات التي تكون ثروة الملفوظ الشفهي وغناه. والكتابة بهذا المعنى لا تعدو أكثر من إجراء يقيد الكلام أو يثبته، على قدر ما ينسخ وجوهه التعبيرية ويطمسها. ولعل هذا ما يجعل الكلمة المكتوبة، وقد استفرغت من غناها الصوتي، تنقاد بسرعة أكثر من الكلام إلى نــــوع من الاســــتعمال المتواطئ أو المشترك الذي يحافظ على المعنى نفسه في مختلف صيغه وأشكاله: فهي وقد ضاعت منها خصائص الكلام الصوتية أو هي تلفت لحظة الكتابة؛ تتثبت في الكلام المكرور وتترتب في صيغ متعاودة متواترة. وربما أمكن بناء على هذا، أن نعيد النظر في «شفوية» الشعر الجاهلي، وأن نفسر ظاهرة تكرير المعاني والموضوعات والصيغ في الشعر العربي قديمه ومحدثه. وكثير منه «مقولب» أو هو من معاد القول ومكروره. وربما أعوزته الصفات الفردية المميزة التي هي ضالة الشاعر.
فلعل هذه الظاهرة أن ترجع إلى الكتابة، وليس إلى الشفوية كما دأبنا على القول؛ أي الكتابة التي نشدد على أنها يمكن أن تنشأ خارج الأمية بالخط، وبدون تدوين، بل إن في حفاوة النقد العربي القديم بـ«سرقات الشعراء وما تواردوا عليه» وهو عنوان الكتاب المنسوب إلى ابن السكيت (ت 243هـ) ولعله من بواكير كتب السرقات الأولى، ما يعزز رأينا في أن السرقة الشعرية لم تصبح ظاهرة نقدية إلا في سياق الخصومة بين جرير والفرزدق (النقائض)، أي مع بدايات التدوين.
ويكاد لا يخلو مصنف نقدي قديم من باب في سرقات الشعراء ـ وهو موضوع نكاد لا نقف على أثر له في ما وصلنا من «نقد» منسوب إلى الجاهلية. وهو يعزز ما نحن بصدده من أن الاستعمال المتواطئ هو إحدى سمات الكلمة المكتوبة أيضا. ولعل هذا ما جعل كثيرا أو قليلا من شعراء العربية ـ وقد أدركوا منذ أن أنشد عنترة «هل غادر الشعراء من متردم» أن ظاهرة تكرير المعاني كما هي، مما يجافي خاصة الشعر ويذود عنه جوهره. ومن ثم صرفت طائفة منهم همها حينا إلى تكثيف «المعنى على المعنى» أو ما يمكن أن نسميه «المعنى المكنى» الذي يتأدى على أساس من معنى سابق يحتال له الشاعر أو يحتال عليه، بشتى أساليب القول وأفانينه. وربما صرفته آنا إلى»المعنى غير المسمى» أو الذي تتعذر تسميته، أو ما يمكن أن نسميه «اللامتصور» أو «المعنى الإحالي». وربما حق لنا استئناسا بهذا الاستعمال المتواطئ في المكتوب أن نستعير للكاتب/الشاعر تعريف فاليري من حيث هو «الشخص الذي لا يقع على كلماته». فالكلمة المكتوبة هي بحكم «مقامها التلفظي» من الكلام الذي لا تستجاب دعوته في الحال، ومصيرها غامض مجهول وأثرها موقوف أبدا على المرسل إليه الذي يمكن أن يرد عليها قيمتها الكلامية. هي أشبه بصرخة مكتومة في بياض الورقة إذ لا تستثير تلك الاستجابة الآنية التي يستشيرها الشفهي السماعي. إنما هي تحد كلمة لاحقة بها وأخرى لاحقة عليها وتجعل الكلام آخذا بعضه بعضا. وغالبا ما تكون قيمتها من حيث التبادل تواطئية تفكرية، إذ يعوزها الصوت أو الكلمة النقيض التي من شأنها أن تؤثر في القول. فهي «هبة» ذات معنى واحد وحيد، و«خسارة لغوية»، بل هي تخل وهجران وخذلان إذ تهجر عالم الكلام «الحي» لتتأبد في الكلام «الميت». والكتابة بهذا المعنى مزق وصدع وجرح. ومن لطائف العربية أن الجذر (ك.ل.م) يجمع بين اللفظ والجرح. وما أكثر ما تستوقفنا في الخطاب ندوبها وآثار جروحها الباقية التي لا تندمل.
الكلام هو أداء اللغة لذي تصنع به وفيه ذات ما مقولا ما، مثلما هو تبادل أو فعل مشترك يتألف من المظهر المزدوج مظهر صناعته ومظهر تأويله.
ما يعنينا في هذا السياق إنما هو المشادة التي لا فكاك منها، بين الكلمة مكتوبة والكلام ملفوظا. من أين تتأتى هذه المشادة ؟ وما هي علتها؟ وكيف للكلمة الشعرية المكتوبة وهي «التواطئية» «الناقصة « المستفرغة من أصواتها وأجراسها أن تضمن سيرورتها الكلامية اللاحقة؟ وهل للكتابة وهي «الكلام الميت» أن تعتاض عن «خسائرها» الصوتية والإيقاعية، بعلامات خطية مرئية، وتحفظ مقاما «تذاوتيا» تتسنمه، وتحافظ، في الكلمة وبها على طاقة التعبيرية الحوارية الحية؟
لعله من الرجاحة بمكان أن نقول إن الخطاب تؤديه ذات فرد محكومة بهذا المقام الذي يسميه المعاصرون عالم الذات وما يعقده من علاقة بين المقول (الملفوظ) وفعل القول (التلفظ).
وهو رأي تعززه هذه «الأنا» التي تتكلم، سواء أفصحت عن نفسها بضمير المتكلم أو بصيغة من صيغ «الالتفات» أو حتى بصيغة المبني للمجهول. ولكن وضع هذه الذات متصل كأشد ما يكون الاتصال بوضع المخاطب، وسلطتها وهي التي تحتاج إلى الآخر وتستدعيه، سلطة نسبية أو هي قاصرة.
فمن رجيح القول إذن أن نقرر أن هذه الذات/ الفرد هي في الحقيقة ذات جمع، خاصة في الشعر حيث تتراءى طيوف ذوات متدافعة متزاحمة؛ وخطاب يقوم على تجاذب خطابين شعري ونقدي هو أشبه بتجاذب حركتين متموجتين من «تردد» واحد مصدره النص المحكوم بنوع من «التخلق» أو التبدل في نسيجه، أو ما يمكن أن نسميه «متغيرات العلامة المكتوبة».
كل نص مهما يكن شأنه، هو خطاب «قلق» في ذاته وفي مراتب تقبله. أي أن تفرده ليس تفردا خالصا ولا هو وقف على استقلال ذات متكلمة تؤدي اللغة بحرية مطلقة. فالكلام من حيث هو أداء لغوي ذاتي، خطاب اجتماعي سواء امتثل لعمل اللغة التعاقدي والأيديولوجي أو لم يمتثل. والمقول (الملفوظ) الأدبي، مهما تكن أصالته أو غرابته، إنما يتأدى من تلقاء نفسه، على تأليفات قائمة، مثلما هو يتمايز عنها في الآن ذاته. وفي سياق كهذا يمكن أن نتقصى الإكراهات التي تعترض حرية فعل الذات وتكبح غلواءها. فالكلام هو أداء اللغة لذي تصنع به وفيه ذات ما مقولا ما، مثلما هو تبادل أو فعل مشترك يتألف من المظهر المزدوج مظهر صناعته ومظهر تأويله. وهو من ثم، يتيح لنا أن نلم بمظاهر الذاتية في النص. وربما أسعفتنا «التداولية « في إظهار الكيفية التي يعقد بها الكلام علائق شتى بين المتكلمين؛ وهو يجمع ويفرق، ويجعل القراءات التي تتسابق وتتبارى في الوقوف على دقائقه والكشف عن أسراره، والقارئ الحصيف إنما نراعي النص في خصيصته الحوارية: ما هو راجع منها إلى علائقه التخاطبية القائمة فيه وبه، وما هو راجع إلى علائقه بنصوص أخرى يجاذبها وتجاذبه على مقتضى التداخل النصي أو المشادة بين الكلام والكلمة.
٭ كاتب من تونس