بين المونديال والتعذيب من الاتصال

كان إصدار العملة الورقية من آخر قرارات حكومة الاتحاد والترقي في أواخر عهد الدولة العثمانية. قرار تحديثي كان أحد أسباب كثيرة للأزمة الاقتصادية (ثم للمجاعة) التي اجتاحت أراضي الدولة العثمانية عموما وبلاد الشام خصوصا. إذ لم يكن الناس ليتقبلوا بسهولة فكرة مبادلة ما لديهم من عملة ذهبية «رنانة ووازنة»، مثلما يقول التعبير الفرنسي، بمجرد أوراق، حتى لو قيل لهم إن الدولة تقول إنها نقود. فقد كانت ثقتهم في الدولة تساوي ثقتهم في ورقها.
ولأن مسألة الثقة هذه محورية في تاريخ الاقتصاد السياسي، مثلما بينت أبحاث آلان بيرفيت، فإن أنباء المونديال اتحفتنا هذا الأسبوع بأن حكومة غانا أرسلت إلى البرازيل طائرة محملة بثلاثة ملايين دولار عدا ونقدا! س: أفما يزال هنالك في عالم اليوم دول تسوي الصفقات أو المعاملات بنقود محملة في الصناديق؟ ج: نعم. س: ومتى يكون ذلك؟ ج: إذا كان لاعبو منتخبها في المونديال يتحرقون لنيل مكافآتهم الموعودة ولكن ثقتهم في الحكومة، أو في اتحاد الكرة، «قوية» إلى حد أن مسألة التحويلات البنكية تبدو لهم نظرية جدا ومفتوحة للتأويلات نقصانا فذوبانا. ولهذا فإن لاعبي غانا تغيبوا يوما كاملا عن التدريب حتى لا يتركوا لمن هو «محل ثقة» أي مجال لعدم الفهم أو للإبطاء فيه. بل أنهم كانوا على كلمة رجل واحد: «أرني النقود!»، مثلما يقول عنوان فيلم شهير للممثل الكوميدي الأمريكي اللامع داني دافيتو.
ولأن عجائب المونديال لا تنتهي، فقد فعلها نجم منتخب الأوروغواي وفريق ليفربول لويس سواريز ثانية (ولو أن المدققين يقولون إنها الثالثة) وعض أحد لاعبي الفريق المنافس (الإيطالي جورجيو كلليني) عضة رسمت خارطة في كتفه. حالة لاكروية تذكّر بمشهد، في مجموعة «مشموم الفل» للروائي التونسي البشير خريف، لعائلة بائسة تحاول استعطاف الحارس عله يسمح لها بالاستجمام على الشاطئ، فإذا بالجرو يستبق الأحداث ويعض الحارس «عضة أبانت لون كلصونه». وقد سارعت البشرية التويترية الحنون إلى تشبيه سواريز ببطل فيلم «هانيبال» الكانيبال (آكل لحوم البشر) الشهير الذي تقمص دوره الممثل البريطاني أنتوني هوبكينز. على أن الظاهر تلفزيونيا أن ليس في فلتة سواريز الأخيرة نزعة كانيبالية وإنما تدرج بطيء نحو العضة الفرانكنشتاينية.
ولأن العض مجرد لعب أطفال، فإن الجد قد اقتضى أن فصل المقال في ما بين المونديال والتعذيب (أي نعم!) من الاتصال لا بد أن يأتي بتوقيع نجم بحجم عمدة مدينة لندن بوريس جونسون. وهو في الأصل صحافي قدير، يكتب منذ زمن مقالة أسبوعية في الديلي تلغراف: ساخر، لاذع وعارف بالآداب واللغات. كتب جونسون أنه لم يعد للإنكليز من جلد على مكابدة العذاب المتجدد كل أربعة أعوام بفعل عجز منتخبهم عن بلوغ مستوى الكرامة، ناهيك عن تحقيق أماني المجد. ولهذا فقد اهتدى إلى حل مافيوزي مقنع: قال إني لن أمضي إلى حد الدعوة إلى ممارسة التعذيب الفظيع الذي كان ينزله عدي، ابن صدام حسين، بمن يعجز عن التسجيل من لاعبي المنتخب العراقي. ولكني أدعو إلى معالجة الطاقم المسؤول عن المنتخب الانكليزي بدرجة مخففة من الصعق الكهربائي حتى يصحو القوم ويدركوا أن «فتورهم واستسلامهم منكران ومضرّان سياسيا بهذه البلاد».

مالك التريكي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية