بين توازن الرعب النووي وإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل

إذا كانت إسرائيل تعتقد أنها باغتيال عالم الذرة محسن فخري زاده قد أوقفت برنامج الطاقة النووية الإيراني، أو أبطأته لعدة سنوات، فقد أخطأت. تماما كما حدث خلال حملة التفجيرات في المواقع النووية الإيرانية، التي استمرت خلال صيف العام الحالي، ثم كشف تقرير وكالة الطاقة الذرية الأخير منذ شهر، أن البرنامج مستمر بالوتيرة نفسها تقريبا، مع تعديلات طفيفة في المواعيد لا تؤثر في مدى تقدمه.
التقرير كان صادما لإسرائيل، التي نظمت الحملة الشرسة للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، بواسطة عملاء محليين داخل إيران، والتعاون مع الولايات المتحدة والسعودية، وباستخدام وسائل التخريب الإلكتروني، عن طريق الشبكات المعلوماتية. أخطر ما جاء في التقرير هو ما يتعلق بتشغيل جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي في مركز تخصيب اليورانيوم في (نطنز) داخل موقع حصين تحت سطح الأرض. وكانت إسرائيل قد اعتقدت أنها نجحت في إعادة موقع التخصيب المتطور في (نطنز) إلى الوراء لمدة عامين على الأقل، وقالت إنها دمرت 75% منه، بناء على فحص صور الأقمار الصناعية للموقع بعد تخريبه في يوليو الماضي.

القدرةعلى إنتاج أجهزة الطرد المركزي

لقد برهن التقرير على فشل إسرائيل في تأخير البرنامج النووي الإيراني بالقدر الزمني الذي أعلنته (عامين). كما كشف أن المشكلة الحقيقية التي تواجهها إسرائيل ليست في كمية اليورانيوم المخصب لدى إيران، ولا في نسبة التخصيب، وإنما تتمثل المشكلة في العجز عن تدمير قدرة إيران على إنتاج وتشغيل جيل جديد من أجهزة الطرد المركزي المحلية الصنع، القادرة على التخصيب بنسب تصل إلى أضعاف النسبة المتفق عليها في الاتفاق النووي. وحتى إذا افترضنا أن إسرائيل تستطيع تخريب أو حرق خط من خطوط أجهزة الطرد المركزي المتطورة، فإن إيران لديها القدرة على أن تنتج بديلا عنها بسرعة، ولن تستطيع إسرائيل وقف البرنامج الإيراني بالقوة، طالما أن لدى إيران الإرادة السياسية والقدرة العلمية والتكنولوجية على الاستمرار في تطوير وإنتاج أجهزة طرد مركزي حديثة وتشغيلها.

إسرائيل ترفض إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل

لقد رفضت إسرائيل في نوفمبر من العام الماضي دعوة السكرتير العام للأمم المتحدة من أجل المشاركة في مؤتمر دولي لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وكل أسلحة الدمار الشامل ووسائل إطلاقها. وهي بذلك تصر على منع جهود إحلال السلام والأمن في المنطقة، معتمدة على قدراتها النووية، وتريد أن تستخدم هذه القدرات في جعل كل المنطقة أسيرة لرغبتها في الهيمنة تماما على المنطقة بأسرها. وتعتبر منطقة الشرق الأوسط، أكثر مناطق الأزمات والتوتر في العالم. وكانت تاريخيا حاضنة لصراعات مميتة، سواء بين قوي من داخلها، أو من خارجها. وتتنوع محركات الأزمات والتوترات بين النزاعات العرقية والدينية والمذهبية والحدودية. ولم يحدث في التاريخ القريب، أو البعيد أن هدأت أزمات المنطقة إلا تحت سيطرة قوة كبرى، من داخل المنطقة أو من خارجها، مثلما حدث في عصر السيطرة الأوروبية، وقبله في عصر السيطرة العثمانية. في هذه العصور كانت القوة العسكرية للدولة المسيطرة، هي مفتاح الاستقرار المحلي والأمن الإقليمي. ويعتبر خبراء الاستراتيجية العسكرية، أن القدرات النووية الإسرائيلية، ستظل هي العامل الحاسم في تحديد ميزان القوة العسكرية في المنطقة، بصرف النظر عن سباق التسلح الذي تشهده، والذي تتربح منه أساسا شركات السلاح الأمريكية.
وإذا كان أعداء إيران في المنطقة، وعلى رأسهم إسرائيل، يهددون بشن حرب عليها وتدميرها لأنها تنتج يورانيوم مخصب بنسبة في حدود 5%، فإنهم بذلك يتعامون عن إنتاج إسرائيل اليورانيوم والبلوتونيوم المخصب بنسبة تزيد عن 90%، وهي النسبة الصالحة الاستخدام في إنتاج القنابل والرؤوس النووية. وكانت إسرائيل قد بدأت في إنتاج أسلحة ذرية قبل حرب يونيو عام 1967 طبقا لتقريرين منفصلين أصدرهما مركز غلوبال سيكيوريتي في الولايات المتحدة، الذي قال إن إسرائيل كانت قد أنتجت قنبلتين نوويتين على الأقل قبل حرب يونيو، وتقرير آخر أصدره معهد روس أتوم للاستقرار الاستراتيجي، أكد أن إسرائيل أنتجت أول أسلحتها النووية بين عامي 1967 و1968.

ترسانة نووية جوية وبحرية وبرية

ويشير تقرير لمكتب مؤسسة كارنيجي في موسكو، نشر أواخر سبتمبر الماضي إلى أن إسرائيل تمتلك حاليا ترسانة نووية متطورة جدا ومتنوعة، تشمل رؤوسا نووية، وأنظمة للإطلاق على أهداف من الجو والبر والبحر، يمكنها أن تبيد الشرق الأوسط عدة مرات، بينما لا تملك الدول الأخرى في المنطقة ما تستطيع به أن تحقق الأمان والسلام، أو أن ترد العدوان. ويذكر تقرير أخير نشره معهد سيبري لأبحاث السلام في استوكهولم أن مخزون اليورانيوم المخصب إلى درجة الاستخدام العسكري لدى إسرائيل بلغ في عام 2017 ما يتراوح بين 770 إلى 1030 كغم. واعتمادا على أن كل 5 كيلوغرامات من هذه الكمية تكفى لصناعة قنبلة نووية بقدرة لا تقل عن 20 كيلوطن، فإن عالم الذرة الروسي فيكتور إيسن يقدر أن إسرائيل يمكن أن يكون لديها ما يتراوح بين 154 إلى 206 أسلحة نووية من كل كمية المخزون عام 2017. لكن المتابعين للبرنامج النووي الإسرائيلي، يقدرون أن معامل الأبحاث والمفاعلات النووية ومراكز التطبيقات العسكرية، لا تستخدم كل المخزون المتاح لإنتاج أسلحة، ولكنها تقوم بتجنيب ما يقرب من 25% من المخزون لأغراض التطوير والاستخدامات الجديدة، التي تعتمد على تكنولوجيات متقدمة جدا مثل الليزر والموجات الكهرومغناطيسية والقنابل النووية الحرارية. وعلى ذلك فإن التقدير الأقرب لعدد الأسلحة النووية الإسرائيلية حتى عام 2018 يبلغ ما يتراوح بين 115 إلى 155 قنبلة نووية بقدرة تتراوح بين 20 إلى 40 كيلوطن.
ومن المعروف أن ترسانة الأسلحة النووية تتكون من ثلاث منظومات متكاملة، الأولى للتطوير والإنتاج، والثانية للاختبارات والتقييم، والثالثة للإرسال التي بها تتحدد قدرة الدولة المنتجة للأسلحة النووية على الوصول إلى أهدافها في الدول المعادية. وتعتمد منظومة الإرسال المتكاملة على القدرة على إطلاق الأسلحة النووية من الجو والبر والبحر. وتمتلك إسرائيل ما يصل إلى 50 من الطائرات القاذفة القادرة على حمل وإطلاق القنابل النووية، أو صواريخ مزودة برؤوس نووية، مثل طائرات إف 15 وإف 16 المعدلة محليا. كما تمتلك منظومة إطلاق بري تعتمد على صواريخ أريحا 2 وأريحا 3 المحمولة على منصات متحركة، والقادرة على حمل رؤوس نووية، يصل مداها إلى 6500 كم. ويتم حاليا تطوير صاروخ جديد من هذا الطراز هو أريحا 4 من المتوقع أن يجري اختباره بين عامي 2022 و2023. وطبقا لتقرير كارنيجي، فإن إسرائيل كانت تملك في يناير 2018 نحو 80 منصة متنقلة للإطلاق، كما تملك نحو 50 رأسا نوويا لهذه الصواريخ التي يمكن أن تحمل رؤوسا تقليدية، أو نووية بوزن يتراوح بين 1000 إلى 1300 كغم. أما بالنسبة لإطلاق الأسلحة النووية من البحر فإن البحرية الإسرائيلية لديها 6 غواصات ألمانية من طراز دولفين، حصلت على أول ثلاث منها بين عامي 1999 و2000، ثم ثلاث أخرى بين عامي 2013 و2019، وتم تطويرها وتحديث مواصفاتها الصناعية والعسكرية في إسرائيل، وهي قادرة على إطلاق صواريخ كروز تحمل رؤوسا نووية من تحت الماء.

القوة النووية لإسرائيل تكفي لتدمير الشرق الأوسط عدة مرات، في مواجهة دول مجاورة لا حول لها ولا قوة

وبذلك فإن إسرائيل تملك منظومة نووية متكاملة، تضم مفاعل ومركز الأبحاث في ديمونة لتخصيب البلوتونيوم، ومفاعل ومركز الأبحاث في سوريك المتخصص بإنتاج الماء الخفيف وتطوير التطبيقات والتصميمات العسكرية للأسلحة النووية، ومصنعا لإنتاج الرؤوس النووية في يوديفات يقع على بعد 130 كم إلى الشمال الشرقي من تل أبيب. وتتنوع الأسلحة النووية في الترسانة الإسرائيلية بين 80 قنبلة نووية، و50 رأسا نوويا للصواريخ، إضافة إلى 30 قنبلة فراغية يمكن حملها وقذفها على أهداف معادية بواسطة الطائرات. إذا كانت هذه القوة النووية لإسرائيل تكفي لتدمير الشرق الأوسط عدة مرات، في مواجهة دول مجاورة لا حول لها ولا قوة، فكيف يكون لإسرائيل أن تشكو من انعدام الأمن، وأن تقود حملة عالمية ضد إيران باعتبارها تهديدا للسلام العالمي والأمن في المنطقة؟ الحقيقة الناطقة تقول بأن إسرائيل هي مصدر التهديد الرئيسي للسلام والأمن الإقليمي، وأن دول المنطقة يجب أن تسعى إلى إقامة توازن نووي مع إسرائيل، ببناء قدراتها النورية، حتى لا تستأثر إسرائيل وحدها بالقدرة على فرض هيمنتها العسكرية وإخضاع المنطقة بأكملها لهيمنتها. ولذلك فإن تعديل موازين القوى العسكرية في الشرق الأوسط لن يتحقق الا بأحد طريقين؛ الأول هو إقامة توازن الرعب النووي، وذلك بالا تكون إسرائيل وحدها هي صاحبة الأسلحة النووية في المنطقة. أما الطريق الثاني فإنه إخلاء منطقة الشرق الأوسط تماما من الأسلحة النووية، وكافة أسلحة الدمار الشامل، وكافة وسائل إطلاقها واستخدامها.
كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منصور الكبير -الجزائر -:

    التكنولوجيا النووية هي صناعة قائمة بذاتها ، تحتاج إلى سلسلة من المصانع الأخرى المناولة لتزويد المفاعلات النووية بالمواد الأولية و كذلك بقطع الغيار و التحديثات العلمية ،و هي معقدة نظراً لقلة توفر المعلومات المبتكرة و براءات الإختراع التي لا تباع في السوق مثل باقي الصناعات ، بل يجب توّفر فريق عمل من العلماء ذو كفاءة عالية و توفير مخابر البحث اللازمة ، كل هذه المنظومة تحتاج إلى وقت أولاً ،، و إلى أموال طائلة ثانياً . هذا ما يؤكد عدم قدرة إسرائيل و أمريكا في إيقاف المشروع النووي الإيراني ،لأن هذا الطريق سارت فيه إيران عن قناعة لسنين طويلة و خسرت مئات الملايير من الدولارات و لن تتوقف لمجرد تهديد إسرائيل لها ، و هي تعلم أيضاً علم اليقين أن إسرائيل لن تهاجمها لتغيير النظام و إنما ضربات من هنا و هناك من أجل فرملة طموحاتها في صناعة القنبلة النووية ،بالإضافة إلى غياب الحساسية بينهما ،، على غرار ما هو موجود بين الأمة العربية و إسرائيل المُوّسَمة بذكريات الحروب السابقة الأليمة ،،
    (….

  2. يقول منصور الكبير -الجزائر -:

    إذن يمكن للدول التي تريد دخول النادي النووي أن تقول أنها أمة غير عربية،، مثلا أن تقول تركيا .. نحن أتراك ،، و تقول مصر نحن أقباط ،، و تقول الجزائر نحن أمازيغ ، ثم تنطلق في المشروع النووي و لا خوف عليها . و الظاهر أن المشروع النووي الإسرائيلي نظرياً بدأ سنة 1953 و ليس سنة 1967 ، من خلال إتفاقيات سرية بين إسرائيل و فرنسا تلتزم فيه إسرائيل بتزويد فرنسا بالمواد الأولية اللازمة والبحوث والدراسات المختلفة و براءة اختراع “دوستروفسكي” لإنتاج الماء الثقيل ،مقابل إجراء هذه التجارب في الصحراء الجزائرية ، و فعلاً أجرت فرنسا 13 تجربة نووية في الجنوب الجزائري بداية من سنة 1960 – تجارب اليربوع الأزرق و الأحمر و الأبيض – نسبة لحيوان اليربوع المتواجد بكثرة في الصحراء و لألوان العلم الفرنسي .تجارب أُجريت فوق الأرض و تحت الأرض ، أشدها بطاقة 127 ك.طن ،، بحضور مجموعة كبيرة من العلماء و الخبراء الإسرائيليين في الصحراء الجزائرية و “شمعون بيريز ” مهندس البرنامج النووي و الرئيس الإسرائيلي الأسبق كان من بين الحضور الذي قال بعد إجراء تلك التجارب : إن الكثيرين انتقدوا المشروع في أول الأمر لأنهم اعتبروه مغامرة سياسية قد توحد العالم ضدنا .

إشترك في قائمتنا البريدية