المراقب للأجواء السياسيّة البريطانيّة هذا الصيف سيجد، دون كبير عناء أن الدّولة البريطانية العميقة وكأنّها قد اتخذت قراراً لا رجعة فيه بمنع جيريمي كوربن الزعيم اليساري لحزب العمّال البريطاني ذي الشعبيّة المنقطعة النظير من تولي منصب رئاسة وزراء البلاد، مهما كان الثمن، وهو لذلك يتعرّض لحملة غير مسبوقة من الاتهامات بمعاداة السّاميّة والعداء لليهود تشاركت فيها قطاعات عدّة ليس أقّلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والسفارة الإسرائيليّة في لندن، بل وقائمة طويلة تبدأ بالصحافة البريطانيّة الرئيسة – التي يهيمن على أكثر عناوينها الرأسمالي – اليهودي – روبرت مردوخ، إضافة إلى الصحف والمنظمات اليهوديّة في البلاد ولا تنتهي بالجناح اليميني في حزب العمّال، الذي يتجمع فيه أنصار إسرائيل مع الموالين لتوني بلير – رئيس الوزراء البريطاني السابق الشهير لدوره في التحالف مع الولايات المتحدة لإسقاط العراق، ناهيك عن الشرطة البريطانيّة التي تعاني من نقص مزمن في الكوادر وفشل متراكم في مواجهة مشاكل تفشي الجريمة وسيطرة عصابات المخدرات على ليل المناطق السكنيّة داخل المدن الإنكليزيّة الكبرى، لا سيّما العاصمة لندن، لتقول إنها تعتزم التحقيق الآن بشأن مواقف معادية للساميّة داخل حزب العمّال المعارض، كما الحكومة البريطانيّة التي رفضت طلباً شعبيّاً وجه للبرلمان لفتح تحقيق في تدخلات السفارة الإسرائيليّة بشؤون حزبيّة بريطانية، معتبرة أن حادثة تصوير أحد دبلوماسيي السفارة وهو يعرض رشوة طائلة على ناشطين في حزب العمال لضمان مشاركتهم في التآمر على كوربن هو حادث معزول ولا يعكس سياسة رسميّة للحكومة الإسرائيليّة (الصديقة). ولمزيد من الإثارة فإن الإعلام البريطاني تحدث عن أن مدير المخابرات البريطانيّة استدعى الزعيم كوربن إلى مكتبه ليسمعه درساً أخلاقيّاً عن خطورة مسألة العداء للساميّة!
كل ذلك يبدو أقرب ليكون سرد أحداث سيناريو فيلم خيالي على نسق العمل الدرامي الشهير (انقلاب بريطاني بامتياز – 1988) عندما تتصدى مراكز النفوذ البريطانيّة لرئيس وزراء يساري منتخب أراد إعادة النظر في تحالفات بريطانيا السياسيّة عبر العالم فتتآمر لإسقاطه. بل وسيذهب الكثيرون من مسطحي التفكير للعودة من جديد إلى مقطوعة نظريّات المؤامرة وأن تصّور تحالف كل تلك الجهات معاً في جهد منظم ضد كوربن إنما هي شطحات خيال إجرامي يهرب من الواقع إلى رواية مفتعلة تسهّل على صاحبها استيعاب تعاقب الأحداث في عالمنا شديد التعقيد.
إذا لم تكن هذي مؤامرة فما هي المؤامرة؟
ربّما لا يُدار العالم بملعقة حفنة من الأثرياء المشبوهين الذين يجتمعون ليلاً في أحد القصور المعزولة لتقرير مصائر الأمم والشعوب، لكن التحالفات التي تبرم وراء الكواليس في بطن الليل بين مجموعات المصالح المشتركة – لا سيّما داخل مدينة لندن تحديداً – بغرض تنسيق المواقف تجاه أي تهديد حقيقي لهيمنة الفئة الحاكمة في البلاد أمر لا يمكن إنكاره بأي شكل، سواء اتفقنا على وصف تلك التحالفات بالمؤامرات أم بغيرها.
ولعل الفضيحة التي تفجرت نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي – المستمرة الفصول إلى اليوم – واشتهرت باسم السياسي البريطاني «جيريمي ثورب» تكون أكبر مثال على المدى الذي يمكن أن تصل إليه الدّولة البريطانيّة العميقة بسعيها لحماية مصالح الفئة الحاكمة، كما لو كنا في أي دولة من دول العالم الثالث، ودون أدنى احترام لمظاهر الديمقراطيّة أو لحكم القانون الذي يطبّق بشكل استنسابي لا أكثر.
عن «جيريمي ثورب» أم الفضائح البريطانيّة
الذين لم يسمعوا بفضيحة «جريمي ثورب» قبل اليوم، أتيحت لهم فرصة عظيمة لبناء تصور أوضح عن آليات الهيمنة داخل المجتمع البريطاني من خلال الفيلم التلفزيوني الوثائقي «فضيحة جيريمي ثورب» الذي أنتجه الصحافي التلفزيوني المخضرم توم مانجولد وعرض على تلفزيون «بي بي سي» مؤخراً بالتوازي مع عرض المُسلسل الدرامي الجديد القصير «إنقلاب إنكليزي بامتياز …» والذي يحكي قصة تلك الفضيحة وقام بدور البطولة فيه باقتدار الممثل المعروف هيو غرانت.
ثورب (1929- 2014) كان سياسياً بريطانياً لامعاً في فترة الستينيات – السبعينيّات، ونجح وقتها في الوصول إلى البرلمان ممثلاً عن حزب الليبراليين الأحرار، ورشحه الكثيرون لتولي منصب رئيس الوزراء بالنيابة في حكومة تحالف مع حزب المحافظين حينذاك.
ولأنه كان أحد منتسبي الناّدي الافتراضي الذي يأتي منه سياسيو بريطانيا الكبار (خريجو مدرسة إيتون الخاصة وجامعة أكسفورد) ومتزوجا من سيّدة ارستقراطيّة كانت طليقة ابن عم الملكة إليزابيث، فإن الدّولة البريطانيّة العميقة وباستخدام أدواتها من حكومة وقضاء وشرطة عملت بشكل حاسم على حمايته من فضيحة تورطه بمحاولة لقتل نورمان سكوت – عشيقه لسنوات طويلة في علاقة مثليّة آثمة – بعد أن هدد الأخير بفضحه على الملأ في وقت كان موضوع المثليّة الجنسيّة تابوها محرماً يعاقب عليه القانون. تفاصيل تلك الجهود لحماية ثورب – والموثقة الآن – مثيرة للدهشة في تشابكاتها وتوسعها واستمرارها عبر العقود وانعدام الخجل لدى الأطراف المتآمرة.
سكوت كان لجأ أول الأمر بالشكوى إلى قيادة حزب الليبراليين الأحرار، لكن تحقيق الحزب أدانه هو بوصفه مريضاً نفسيّاً تجرأ على نسج أوهام بشأن سياسي مرموق ومحترم لأغراض الابتزاز.
بينما قالت الشّرطة إن الرّسائل التي كان ثورب يرسلها لعشيقه وأصبحت بحوزتها لا تشير إلى شىء محدد بهذا الشأن وأكدت لقيادة الحزب وقتها أن ثورب ليس موضوعاً للتحقيق بأي شكل من الأشكال.
ولما وصلت المسالة للقضاء خالف القاضي بيتر كوك رأي هيئة المحلفين فبرّأ ثورب من تهمة التآمر للقتل وأطلق مجموعة من الألفاظ المقذعة بحق سكوت. وادعت الشرطة أن القاتل المستأجر الذي زعم سكوت أنّه حاول قتله قد توفي ولم يعد على قيد الحياة (وهو ما كشف عن كذبه لاحقاً إذ أن الرّجل ما زال حيّاً يرزق)، بينما اختفت من ملفات الشرطة وبشكل غامض أوراق اعتراف قاتل مستأجر آخر قال إن ثورب عرض عليه في وقت ما ثروة صغيرة إن هو تخلّص من سكوت. وحتى عندما أعيد فتح التحقيق مرّة أخرى عام2015 بعد تكاثر الإشارات عن وجود دلائل تكفي لإدانة ثورب، أغلقت الشرطة التحقيق بعد سنتين لعدم كفاية الأدلّة.
الإعلام مُستقيلاً من مهمته
الفيلم التلفزيوني الوثائقي «فضيحة جيريمي ثورب» له حكاية هو الآخر. إذ أن منتجه مانجولد الذي كان حينها موظفاً في «بي بي سي» أعد مادة استقصائيّة متكاملة عن تفاصيل الفضيحة ليقدمها ضمن برنامج بانوراما الذائع الصيت، قبل أن يتدخل المدير التنفيذي لمجموعة «بي بي سي» ويصدر تعليمات مشددة بوقف عرض تلك التحقيقات والاتلاف الفوري والنهائي لكل النسخ المتوفرة منها.
ولحسن الحظ أن مانجولد وقتها أحس بالصدمة وتمكن من تهريب نسخة من حلقة بانوراما تلك إلى بيته أصبحت مادتها الأرشيفيّة لاحقاً أساس الوثائقي الجديد.
هنا لندن: المؤامرات
بغض النظر عن أيّ تفاصيل، فإن قصة ثورب ينبغي أن تقلل من سذاجة المتفائلين الذين يعتقدون أن زعيماً يساريّاً يدعو إلى تقليل امتيازات الطبقة الفاحشة الثراء في البلاد لمصلحة الأكثريّة الفقيرة، ويعارض سياسات الإمبرياليّة الأمريكيّة، ويناصر الفلسطينيين في وجه العدوان العنصري الإسرائيلي المستمر عليهم يمكن أن يسمح له يوماً بتولي مقاليد السلطة في بريطانيا. وحتى لو فاز كوربن بالأكثريّة في أي انتخابات مقبلة – وهو احتمال صار غالباً – فلا يجب أن يعتمر الوهم ذهن أحد بأن الدولة العميقة لديها خيارات كثيرة على الطاولة لمنع تسلم كوربن المنصب التنفيذي الأرفع في البلاد، بداية من امتناع الملكة عن تسميته بحجة تورطه في تهم مفبركة على نسق العداء للساميّة، وانتهاء بانقلاب عسكريّ تباركه الملكة وينقل مقاليد السلطة إلى قادة الجيش تجنباً لفوضى مزعومة سيجلبها كوربن بسياساته الداخليّة وخياراته الخارجيّة. إذا لم تك تلك بمؤامرة، فما هي المؤامرات بحق الإله؟
كاتبة وإعلامية لبنانية بريطانية