محمود لاعب نرد حقيقي، وقد زرت متحفه في رام الله شتاء 2013 ورأيت طاولة نرد ضمن أشيائه الخاصّة. ولكنّ هذه اللعبة، على ما يبدو من سيرته الشعريّة، لم تشحذ مخيّلته، ولا هي كانت من دواعي الشعر لديه.
ولعلّ الأقرب إلى الحقّ أنّ ترجمة صديقنا محمّد بنّيس لقصيدة مالارميه الشهيرة «رمية النرد»، والمقدّمة الممتعة التي كتبها لها؛ هي التي نبّهته إلى ما أحبّ أن أسمّيه «نرديّة النرد» قياسا على قولنا «شعريّة الشعر» أي ما يجعله شعرا؛ أو كأن نجعل الحجر «حجريّا» أو نكتنه في الأخضر خضرته، حيث الكلمات تضيء وتستضيء، ويقدح بعضها بعضا بعبارة مالارميه. والأشياء إنّما هي شعريّة بسبب من بنيتها لا محتواها أو موضوعها. فقد أدار محمود نصّه على صور افتراضيّة محورها كلمة «المصادفة» و»الحظّ»، وهما الكلمتان اللتان أتاحتا لبنّيس أن يصل قصيدة مالارميه بأصل عربيّ أندلسي، ويكشف عن أنّ الكلمة الفرنسيةHasard مشتقّة من كلمة الزهر العربيّة. وإنّها لكذلك، فقد انتقلت هذه الكلمة إلى الاسبانيّة، ومن هذه إلى الفرنسيّة؛ في نوع من سياحة الكلمات. وهي تحمل في لهجات المغاربيّين، اسم «الحظ». وتُطلق كلمة «الزهر» عندنا على النصيب من الخير والفضل، بالرغم من أنّ كلمة «حظّ» في العربيّة قد تُطلق على النصيب من الشرّ أيضا. ولكنّي لا أدري ما إذا كانت ترجمة بنّيس هذه «رمية نرد لا تبطل الزهر» سائغة ـ على طرافتها ـ إذ نحن نخشى بهذا الصنيع، أن نملي على النصّين الفرنسي والعربي، ما ليس منهما أو ما قد يجافي خاصّتهما، أو نجعل العاميّ»الزهر» بالمعنى التونسي أو المغربي، يزحزحُ الفصيح، وينوب منابه دون وجه حقّ. والمقصود بـ»زهر النرد»هو قطعة العاج أو العظم المكعّبة المستعملة في هذه اللعبة»لعب الطاولة» كما تسمّيها العامّية. فضلا عن أنّ الكلمة الفرنسيّة لا تعني»الحظّ « إلاّ في استعمالات مخصوصة مثل التركيب بالنعت: حظّ سعيد Heureux hasard وفي ما عدا ذلك، فمعانيها لا تخرج حسب سياقها واشتقاقاتها، عن المصادفة والاتفاق والمخاطرة والمجازفة والمقامرة والمفاجأة والسير بلا قصد والرمية من غير رامٍ، واستعمال عبارة غير موثوقة. ونقدّر أنّ شعريّة مالارميه أمسُّ بهذه المعاني إذ هي منشدّة إلى «الديونيزوسيّة» بكلّ ما تحمله من معاني المصادفة والعشوائيّة والغرابة… وليس إلى «الأبولونيّة» بما تحمله من معاني التوازن والتناسب والتناغم… وعليه فالترجمة التي نقترحها لعنوان قصيدة مالارميه: «أبدا لن تبطلَ [تعطّل] الصدفةَ رميةُ نرد»؛ خاصّة أنّ العبارة الفرنسيّة Coup de hasard تعني «صدفة» ومالارميه نفسه يرى أنّ الكلمات في الشعر، يشعل بعضها بعضا، أو يستضيء بعضها ببعض؛ وكأنّها تتلاقى مصادفة أو بواسطة نوع من اللعب.
لا حرج من إدراج مفهوم اللّعب بالمعنى «الاستطيقي» للكلمة، أي طريقة وجود الأثر نفسه، ضمن ما يمكن أن نسمّيه «أنطولوجيا الشعر» ودلالته الهيرمينوطيقيّة. أقول»الاستطيقي» ولا أقول «الجدّي»؛ لأنّ اللعب جدّ هو أيضا.وهو ما لا نظفر به في معاجم العربيّة التي تضع كلمة «لعب» ضدّ جدّ، أو بمعنى مزح أو فعل فعلا لا يجدي عليه نفعا، أو بقصد اللذة والمتعة أو تزجية الفراغ.
لاحرج إذاً ما دام الأمر يتعلّق ببنية وجود الأثر نفسه. وللتوضيح فإنّنا نحاول، على أساس من الموقع الذي نتّخذه من هذه القصيدة الاستثنائيّة في تجربة محمود، أن نفتح «ثغرة» في جدران هذا العالم عالم اللّعبة الفنّيّة المنغلق على نفسه أستيطيقيّا. ولعلّه من الواضح أنّ عملنا وهو مختزل جدّا، بحكم السقف المحدّد لهذا المقال؛ ليس بالعمل التأويلي، لأنّ بنية الشعر ـ على ما نرجّح ـ بنية هيرمينوطيقيّة، أو هي مؤوّلة سلفا، أو أنّ النصّ ينشأ مؤوّلا. ربّما كان محمود إذن يتأوّل «نرد» مالارميه، أو هو يلاعبه.
…………………..
لأكن واضحا.. فأنا ما كنت لأختتم هذا المقال، بمثل هذه الخاتمة ؛ لولا إشارة من صديق تونسيّ ناقد هو الأستاذ عمر حفيّظ. كان يكتب دراسة عن محاولاتي الشعريّة، فاستوقفته هذه الصور وهي لي. وكتب إليّ يقول إنّها تذكّره بمحمود درويش:
الكتابة ليست سوى رميةِ النّرد
حيث السّماءْ
تتزلّج في الأرض…
دقّ في السّـير زرق مسامير لحمـك
كي يتماسك،
غيّر يديك
وخـطـّ عليه سوانـح من فرحة،
هي أقصر من رمية النّرد
في رقعة من ذهول
والحقّ هذه من قصيدة لي منشورة في ديواني «كتاب العصا» الصادر عام 2007 عن دار النهضة ببيروت. أي قبل أن ينشر محمود قصيدته «لاعب النرد» بحوالي سنتين. علما أنّني كنت قد أرسلتها إلى الكرمل، ولكنّها قد توقّفت وقتها عن الصدور. ومهما يكن، فإنّ قصيدة محمود تظلّ قصيدة استثنائيّة في الشعر العربي الحديث.. ولعلّ هذا من «وقْع الحافر على الحافر» كما كان يقول اسلافنا.
نسوق هذا دون أن يكون من مقاصدنا تجريد مفهوم اللّعب من الدّلالة الذّاتيّة، إذ لا نخال المكانة التي تحوزها الذّات (ذات محمود من حيث هي ذات متلفّظة) في هذه اللّيدولوجيا، بخافية. ولعلّ تعديل الأنا-أفكّر الدّيكارتيّة بأنا-ألعب يمكن أن تبدّد بعض حذرنا بذات تشطّ أو تتسلّط أو تهيمن بصلف على العمليّة الفنّيّة؛ على اعتبار أنّ الأنا-ألعب هي علاقة مفتوحة أكثر منها كيانا أنطولوجيّا ترنسندنتاليّا. سلاما لروح محمود.
منصف الوهايبي
يسمونه (التأثير والتأثر ) أو (وقع الحافر على الحافر) أو (التناص) وهو غير (التلاص.)… وقد تأثر المرحوم محمود درويش بشعراء كثيرين منهم: (السياب- نزار قباني – سعيد عقل- البياتي – أدونيس) . ويقول الدكتور أحمد جبر شعث في كتابه ( جماليات التناص ) بأن درويش تأثر في (الجدارية ) ب الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة في موقعين وتأثر بأدونيس وسعدي يوسف. وتقول الباحثة الجزائرية( ربيب كتيبة ) بأ،ها أحصت عشرة مواقع تأثر فيها درويش بالشاعر المناصرة. ونحن نعتقد أن هذه التأثيرات لا تقلل أبدا من قيمة درويش الشعرية فهو (شاعر فلسطين الأكبر )شاء من شاء وأبى من أبى.
مقال في غاية المتعة ومحاولة لكشف التداخل النصي في قصيدة محمود درويش الرائعة. يا ليت القدس العربي تفتح صفحاتها أكثر لمثل هذه المقالات المفيدة. شكرا لصاحب المقال