لا نعرف بعد إذا كان نتنياهو سيتمكن من تشكيل حكومة في الكنيست التي انتخبت لتوها، ولكن واضح أنه انتصر انتصاراً شخصياً وسياسياً كبيراً. في وضع الأمر العادي، فإن الزعيم الذي يقف أمام اتهامات كالتي وجهت له، ما كان سيتجرأ على أن يضع نفسه أمام الانتخاب. وإذا كان يتجرأ، فإن حزبه كان سيحبط هذا أو يفشل في صناديق الاقتراع. أما نتنياهو فقد كبح في 2019 أ، وبقى على قدميه في 2019 ب، والآن، بعد رفع لوائح اتهام خطيرة وفي ضوء منظومة النيابة العامة لدولة إسرائيل، فقد حقق إنجازاً انتخابياً جارفاً في مواقع التأييد له.
واضح أن التفسير يكمن في عدم ثقة الجمهور في منظومة إنفاذ القانون، والشرطة، والنيابة العامة والمستشار القانوني. ولكن ماسبب عدم الثقة؟ يقول لنا المدافعون عن هذه المنظومة إن نتنياهو يحرض ضدها، وهو ظاهراً صاحب كفاءات مثابة عجيبة ينجح في أن توقع شباكه الجمهور الساذج أو الشاذ، وعديم الفهم في أنظمة الحكم في الجمهورية المناسبة. هذا الادعاء يترنح بشكل سخيف بين مشاعر التفوق ومشاعر الدونية، ويعزو للخصم نتنياهو قدرات خطابية عبقرية، فوق طبيعية تقريباً، ولكنها تتعالى على مؤيديه.
مهما يكن من أمر، فإن نتنياهو رجل كفؤ، ولكن ليس لديه قدرات فوق طبيعية. وكثيرون من ناخبي نتنياهو قد ينتمون إلى الشرائح التي هي نسبياً أكثر فقراً وأقل تعلماً، ولكنها عقلانية بقدر لا يقل عن مؤيدي المعسكر المضاد. فأحياناً التعليم يعمي، ولا سيما حين تتعفن لتصبح غروراً. الواقع السياسي المتقلب قد يدحض مواقف تبدو مفهومة من تلقاء ذاتها للأشخاص المتنورين والمتعلمين، ذوي الفهم السياسي الدقيق ظاهراً. الروح الديمقراطية تقوم على أساس الفهم بأن هناك في السياسة عدم يقين عملي وأخلاقي بنيوي، واحد لا يحوز في يديه “حجر الحكماء” السياسي. وبالتالي، تستبعد حكم “العارفين” من “الجديرين بالحكم”ِ على نمط أفلاطون. هذا هو أحد الأساسات الضرورية المهمة لمبدأ سيادة المواطنين ولمطلب أن يعطى الحكم بموافقتهم.
يجدر بمن هزموا في الانتخابات أن يكفوا عن الاختباء وراء الادعاءات بقدرات نتنياهو وبدونية مؤيديه المزعومة، وأن ينظروا إلى الحقيقة الجلية التي تنعكس من صناديق الاقتراع: جمهور هرع للدفاع عن سيادته أمام التبجحات المتطاولة لشريحة المديرين العسكريين، والقضائيين، والإعلاميين، والاقتصاديين والأكاديميين. وعندما يراد التحفظ يسمون هذا شعبوية، ولكن رب البيت في واقع الأمر يقول “هذا لي”.
لعل الجمهور يأمل بأن يبسط القانون على الغور وعلى الكتل الاستيطانية في المناطق، ولعله أيضاً انتبه إلى التطور المكثف للنمو الهائل في الناتج القومي الإجمالي أو إلى النجاح السياسي لحكومات نتنياهو. كل هذا لعله يشرح انتصار الليكود، ولكن ليس عندما يكون زعيمه واقفاً أمام اتهام بالرشوة. لا يوجد تفسير آخر – الجمهور يشتبه بأن منظومة إنفاذ القانون استخدمت للإطاحة ببنيامين نتنياهو ومعه الإطاحة بالجمهور عن مكانته كصاحب السيادة من خلال المندوبين. هذا اشتباه معلل، عقلاني، وليس تأمرياً بالذات.
ينبغي أن نلاحظ هنا: الجمهور ليس لجنة محلفين، وليس المؤتمن على الحسم في الاتهامات التي وجهت لنتنياهو، ولكن منظومة إنفاذ القانون متعلقة، لمجرد قدرتها على إنفاذ مهامها، بثقة الجمهور بطرق عملها. المستشار لم يعمل عندما انكشف ابتزاز الشاهد الملكي، ولم يفسر لنا لعدم التحقيق، فما بالك يتهم مع أولئك الوزراء في حكومة 2013 – 2015 والنواب الذين حاولوا إغلاق “إسرائيل اليوم” مقابل تغطية عاطفة في “يديعوت احرونوت”. هذه مجرد نماذج من جملة واضحة لعيان الجمهور، بما في ذلك الجمهور الذي يزعم بأنه غير متنور. مثل هذه الإخفاقات ضخمت الاشتباه بصلاحية لوائح الاتهام. عندما تحقق منظومة إنفاذ القانون وتتهم شخصاً انتخبه الجمهور لقيادته، فإن أناسها ملزمون بأن يفهموا أن ثقة الجمهور هي الأرضية السياسية التي يقفون عليها أو لا سمح الله يبلعون فيها. محظور أن يتخذوا صورة وكأنهم صياديو أسماك أو صيادو براري، وبالتأكيد محظور أن يتخذوا صورة وكأنهم لاعبون سياسيون.
الضباط والنواب العامون والمستشار، وبعد ذلك القضاة أيضاً، هم أعضاء محترمون في شريحة مديري المجتمع الإسرائيلي. سمو مكانتهم يجعلهم مرشحين على نحو خاص للغرور والتسلط. وعندما تستقطب السياسة بين “المتنورين” و”الجهلة” المزعومين فإن الميول الإنسانية الثابتة هذه تصبح خطيرة حقاً. الجمهور الإسرائيلي كبحها الآن.
بقلم: آفي برئيلي
بروفيسور محاضر في معهد بن غوريون لبحوث إسرائيل والصهيونية
إسرائيل اليوم 4/3/2020