قد لا نكون سوى في بداية الأزمة العالمية الهائلة التي أحدثها وباء كوفيد ـ 19، ولا نزال بعيدين عن ذروتها من حيث عدد الإصابات والوفيات. لكنّها قد سلّطت الأضواء بما يكفي ويفي على المطبّين الخطيرين اللذين يقف مستقبل البشرية أمامهما، كما تُسفر عنهما اليوم أمام أعيننا أعظم قوتين عالميتين، ألا وهما الولايات المتحدة الأمريكية والصين.
فنرى في الأولى ملامح قانون الغاب تنبعث من «الغرب المتوحّش» الذي عرفته في ماضيها والذي صوّرته أفلام هوليوود في الصنف المسمّى «وسترن» بحيث تثير حنيناً إليه، وجد أسطع تعبير عنه في تحوّل تقليده إلى لعبة مفضّلة لدى الصبيان. هذا بينما كان ذلك «الغرب المتوحّش» أقرب ما تعرفه الثقافة العالمية إلى حالة «حرب الجميع ضد الجميع»، تلك التي «الإنسان للإنسان ذئبٌ» فيها على حدّ قول المثال اللاتيني الشهير. ونرى في الثانية ملامح «المدينة الفاسدة» التي صوّرتها أفلام هوليوود في صنف الخيال العلمي، مستوحية من رائعة الكاتب البريطاني جورج أورويل «1984» حيث تخيّل عالماً تتيح التكنولوجيا فيه وضع كل فرد تحت رقابة دائمة تمارسها دولة شمولية يرأسها «الأخ الأكبر»، وذلك بواسطة شاشات أشبه ما هي بشاشات أجهزة التواصل العصرية.
ويحتار المرء في تعيين أي من المشهدين أكثر تقزيزاً. فقد رأينا في الصين نموذجاً أقصى من مجتمع الرقابة الذي تتيحه التكنولوجيا الإلكترونية الحديثة بحيث تمّ التصدّي للوباء بفرض رقابة على تنقلات الأفراد ولقاءاتهم من خلال الهواتف «الذكيّة» المحمولة، بما أكّد ما لم ينفكّ نقّاد عديدون من التحذير منه، وهو أن ذكاء تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة ذكاءٌ يمكن أن تجيّره الدولة للرقابة على الفرد بما يحقّق كابوس «1984» متأخراً عن الموعد الذي حدّده أورويل في عام 1949 بما لا يزيد عن بضعة عقود.
مصلحة البشر تكمن في النضال في سبيل مجتمع يقوم على الجمع بين التضامن المجتمعي وصون الحريات الفردية، مع إعطاء الأولية للمصلحة الجماعية كلّما اختلفت عن مصلحة الأفراد، أو مصلحة بعضهم بالأحرى
والحال أن الحكم الصيني سبق أن فرض حالة أقرب ما تكون إلى الدولة الشمولية ومجتمع الرقابة الدائمة على شعب الأويغور المسلم في مقاطعة شن جيانغ. وها هو قد عمّم ويعمّم ما اختبره في تلك المقاطعة المنكوبة في سائر أرجاء الصين بغية تطويق الوباء والحؤول ضد المزيد من انتشاره. لكنّ الحقيقة هي أن الحكم الصيني لم يبتكر بين ليلة وضحاها تلك الشبكة الهائلة من الرقابة الإلكترونية على المجتمع، بل رفع درجة استخدامه لشبكة بدأ يعدّها ويحيكها حول المجتمع الصيني منذ سنين، ليس لدرء الأوبئة البيولوجية بل لدرء «الأوبئة الأيديولوجية» حفاظاً على سلامة نظام أعاد مؤخراً إنتاج الرئاسة مدى الحياة وعبادة الحاكم.
هذه التكنولوجيا متوفّرة أيضاً في الولايات المتحدة بالطبع، بل هي أكثر تطوراً لديها. غير أن استخدامها في التجسّس على الأفراد الذي يسلّط النقّاد الأضواء عليه هناك، هو ذلك الذي تقوم به شركات عملاقة خاصة، مثل شركتي «غوغل» أو «أمازون». ذلك أن المجتمع الأمريكي لا يزال مجتمع «الغرب المتوحّش»، وهذا ليس بالمعنى الاقتصادي، أي ذلك التوحّش الرأسمالي الذي تتعارض فيه أنانية الميسورين مع مستلزمات التضامن الاجتماعي، ليس بهذا المعنى وحسب، بل حتى بالمعنى الأصلي الذي يحيل إلى مجتمع سار فيه الرجال وكلٌّ منهم يحمل مسدّسين على خاصرتيه.
هكذا فقد أدّت بداية انتشار الوباء في الولايات المتحدة إلى هجوم الناس ليس على أسواق الأطعمة وسائر حاجات الانكفاء في المنازل، وليس على الصيدليات بغية التزوّد باحتياجاتهم الطبّية وما يظنّونه مفيداً في الوقاية من الوباء، ليس على المخازن والصيدليات إذاً وحسب، بل وبالدرجة الأولى على متاجر الأسلحة! طبعاً ليس أحد من الجنون إلى حدّ الاعتقاد أنه يستطيع ردع الوباء باقتناء السلاح، فمغزى الهجوم على متاجر الأسلحة في مجتمع المشاهدة بامتياز هو في التخوّف من تحقّق سيناريو هوليوودي آخر، سيناريو انفراط عقد الدولة إثر كارثة كبرى، بيئوية أكانت أم نووية، وعودة المجتمع إلى قانون الغاب، لكن بأسلحة فتّاكة حديثة.
هذا ويصعب التفضيل بين النموذجين الكابوسين، أللهمّ إلا بحكمة الفيلسوف الإنكليزي لوك الذي ردّ على تفضيل نظيره الأقدم هوبس للاستبداد على قانون الغاب بالتأكيد على أنه يفضّل أن يواجه أفراداً متناثرين يستطيع التصدّي لهم عند الحاجة على أن يواجه جمعاً منظّماً من الأفراد بإمرة فرد واحد لا يستطيع مقاومتهم. والحقيقة أن مصلحة البشر تكمن في نبذ المفاضلة بين الكابوسين (مثلما فعل لوك نفسه) والنضال في سبيل مجتمع يقوم على الجمع بين التضامن المجتمعي وصون الحريات الفردية، مع إعطاء الأولية للمصلحة الجماعية كلّما اختلفت عن مصلحة الأفراد، أو مصلحة بعضهم بالأحرى.
كاتب وأكاديمي من لبنان