في خضم عودة التوتر بين باريس وأنقرة، انتقد قادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في ختام قمتهم الافتراضية، تحركات تركيا في شرق المتوسط وسجلها في حقوق الإنسان.
باريس-»القدس العربي»: بعد أن بدا خلال الأشهر الماضية أن الأمور تتجه إلى التهدئة عاد التصعيد ليخيم من جديد على العلاقات بين باريس وأنقرة المتوترة منذ أكثر من عام، على خلفية تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الأسبوع من مغبة «محاولات تدخل» لتركيا في الانتخابات. وهو اتهام سارعت أنقرة إلى استنكارها واصفة إياه بـ»غير مؤهلة».
فمنذ أكثر من سنة دخلت العلاقة بين وتركيا ودول الاتحاد الأوروبي، لاسيما فرنسا، في دوامة توتر متصاعدة على خلفية العملية العسكرية التركية ضد القوات الكردية السورية المتحالفة من الدول الغربية، في شهر تشرين الأول/اكتوبر عام 2019. ثم تعمق هذا التوتر مع فرنسا خاصة، عقب التدخل التركي في ليبيا وأزمة شرق البحر المتوسط حيث وقع حادث بين سفن تركية وفرنسية في شهر حزيران/يونيو الماضي، علاوة على انتقاد تركيا لاستراتيجية فرنسا من أجل مكافحة التطرف الإسلامي إلى تعميق الخلافات بين باريس وأنقرة.
وذهب الأمر إلى حد تشكيك الرئيس التركي بالصحة العقلية للرئيس الفرنسي، متهما إياه بـ»معاداة الإسلام» بسبب تمسكه بمبدأ الحرية في نشر الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد(ص)، بعد مقتل مدرس بقطع رأسه في فرنسا. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 2020 قال اردوغان إن ماكرون «يشكل مشكلة لبلده فرنسا» داعيا إلى التخلص منه.
بداية انفراج
غير أن السنة الجديدة حملت معها سعي تركيا إلى تهدئة علاقاتها المتوترة مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما مع فرنسا، حيث بادر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بمراسلة نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، متمنياً له سنة سعيدة، بمناسبة حلول عام 2021 ومستغلاً الفرصة لتقديم تعازيه بعد الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها فرنسا. فأتى الرد بعد ذلك بأيام منتصف شهر كانون الثاني/يناير الماضي، عبر رسالة «إيجابية جداً» من إيمانويل ماكرون، وفق ما ذكر وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو، مؤكداً أن الزعيمين اتفقا في رسالتيهما المتبادلتين على استئناف الحوار بينهما. من جانبه، أكد قصر الإليزيه حصول تبادل الرسائل بين ماكرون واردوغان، لكنه لم يكشف عن مضمونها، مشدداً في الوقت نفسه على «الحاجة حالياً إلى خطوات ملموسة» تبادر بها تركيا من أجل تهدئة التوتر.
وتحدث مسؤولون في البلدين، في شهر شباط/فبراير الماضي، عن أنهما يعملان على خريطة طريق من أجل إعادة العلاقات المتوترة بينهما إلى طبيعتها. وفي خضم هذه الجهود، أجرى اردوغان وماكرون اتصالاً هاتفياً عبر دائرة الفيديو المغلقة بداية شهر آذار/مارس الجاري. وهي مكالمة صرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان للمشرعين في بلاده بأن «تركيا توقفت عن إهانة فرنسا والاتحاد الأوربي وقدمت بعض التطمينات» متحدثاً عن تغييرات إيجابية في موقف أنقرة تجاه باريس. لكنه شدد في الوقت ذاته على أن العلاقات ستظل هشة حتى تقوم أنقرة بعمل ملموس.
خطوة إلى الوراء
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه أن يتم الإعلان عن موعد اللقاء المحتمل «وجهاً لوجه» بين الرئيسين التركي والفرنسي والذي تحدث عنه وزير الخارجية التركي في وقت سابق، وفي خضم أجواء الانفراج بين البلدين، بث تلفزيون «فرانس5» الفرنسي فيلماً وثائقياً ضمن برنامج «سي-دان لير» يوم الثلاثاء الماضي حول رجب طيب اردوغان، في إطاره (الفيلم) حذر إيمانويل ماكرون من مغبة أنه ستكون هناك «محاولات تدخل» من جانب تركيا في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في فرنسا في شهر نيسان/ابريل عام 2022.
لكن الرئيس الفرنسي أبقى الباب مفتوحاً أمام تحسن العلاقات المتوترة مع تركيا، مشيراً في الوقت نفسه إلى الحاجة إلى الحوار مع تركيا التي تعد شريكاً في القضايا الأمنية والهجرة، قائلا: «علينا أن نفعل كل شيء حتى لا تدير ظهرها لأوروبا وتتجه نحو مزيد من التطرف الديني أو الخيارات الجيوسياسية السلبية بالنسبة لنا».
تركيا، سارعت إلى الرد على اتهام الرئيس الفرنسي بشأن عزمها التأثير على الانتخابات الرئاسية الفرنسية بعد نحو عام -حيث يسعى ماكرون إلى الفوز بفترة رئاسية ثانية من خمس سنوات، واصفة إياها بـ»غير المقبولة» وفق بيان لوزارة الخارجية التركية، والذي جاء فيه «في الوقت الذي تسعى فيه أنقرة لإنهاء التوترات لاستعادة العلاقات السلمية والودية مع باريس.. نعتبر أن تصريحات السيد ماكرون مؤسفة وغير متناسقة». وأوضحت الخارجية التركية أن «ما يهم أنقرة فيما يتعلق بالسياسة الداخلية لفرنسا، هو رخاء وسعادة حوالي 800 ألف تركي يعيشون في هذا البلد».
مسجد ستراسبورغ في قلب الجدل
وتزامن تحذير الرئيس الفرنسي من محاولات تدخل لتركيا في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مع جدل في فرنسا على خلفية موافقة مجلس بلدية مدينة ستراسبورغ شرق فرنسا من حيث المبدأ على تقديم منحة مالية تبلغ قيمتها أكثر من 2.5 مليون يورو للمساهمة في بناء المسجد الضخم الذي تبينه جمعية «مللي غوروش» الموالية لتركيا في حيّ للطبقة العاملة بالمدينة. فقد اتهم وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان بلدية ستراسبورغ بـ»تمويل تدخل أجنبي على الأراضي الفرنسية». فيما نفت عمدة البلدية جان بارسيغيان، وهي من حزب «الخضر» (أنصار البيئة/ يساري) في رسالة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، أن تكون قد تلقت أيّ تحذير من أجهزة الدولة بخصوص هذا المسجد، موضحة أن البلدية وافقت على تقديم هذه المساهمة المالية بشرط تقديم خطة تمويل قوية وشفافة وتأكيد صاحب المشروع على تمسكه بقيم الجمهورية.
كما أوضحت بارسيغيان أن مشروع بناء المسجد يعود إلى نحو عشر سنوات، وأنّ حجره الأساس تم وضعه في عام 2017 بحضور سلفها ومحافظ المدينة وعدد من البرلمانيين، معتبرة أنه إذا كان الأمر يتعلّق بتدخل أجنبي على الأراضي الفرنسية، فهذا أمر يخصّ الدولة والحكومة، لذلك من واجب الدولة أن تتحمل مسؤولياتها وأن تتشارك المعلومات التي بحوزتها مع المسؤولين المنتخبين المحليّين.
استعداد أوروبي للتعاون
وفي خضم عودة التوتر بين باريس وأنقرة، انتقد قادة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في ختام قمتهم الافتراضية الخميس الماضي، تحركات تركيا في شرق المتوسط وسجلها في حقوق الإنسان وحكم القانون. وأكدوا في الوقت نفسه على استعداد الاتحاد لـ»تعزيز التعاون» مع أنقرة في عدد من المجالات ذات الاهتمام المشترك، لكن بـ»بشرط استمرار التراجع الحالي للتصعيد». كما تحدث رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل عن تفاؤل حذر بشأن تحسن العلاقات مع تركيا. وقرر الأوروبيون اتخاذ المزيد من القرارات في القمة الأوروبية المقبلة المزمع عقدها شهر حزيران/يونيو المقبل. وقد رحبت أنقرة بـ»الزخم الإيجابي» مع الاتحاد الأوروبي، لكنها رفضت الانتقادات الموجهة إليها بشأن الصراع مع اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط .