الإسكندرية هي مدينتي التي تمشي معي عبر الزمان، رغم أنني لم أستقر فيها غير سبع وعشرين سنة، بينما القاهرة هي المدينة التي أعيش فيها منذ خمس وأربعين سنة.
ظلت الإسكندرية نبعا لرواياتي والكثير من قصصي القصيرة عبر سنوات طويلة، بالضبط حتى عام 2003 حين كتبت رواية «برج العذراء» ثم تأكد ذلك في الرواية التالية لها «عتبات البهجة» عام 2007 ثم كتبت عام 2009 رواية «في كل أسبوع يوم جمعة» ثم عام 2012 رواية «هنا القاهرة» ووضعت عنوانها هكذا ليكون واضحا للجميع، أنا لا أكتب عن الإسكندرية فقط، وأنا بشكل أو بآخر لا أحب أن يقال عني الكاتب السكندري، لأن الكتابة تعني الوطن كله وليست مدينة، رغم أنها قد تكون عن مدينة بعينها. عدت إلى الإسكندرية مرة أخرى في رواية «أداجيو» ثم تداخلت المدينتان في الرواية الأخيرة «السايكلوب». والسؤال الذي أسأله لنفسي كثيرا الآن، أين هي هذه المدن التي كتبت عنها. حين حضرت لأعيش في القاهرة عام 1974 بشكل متـــواصل كانت الإسكندرية تمشي معي.
ورغم أن القاهرة في ذلك الوقت كان تعدادها مليونين من البشر، وليس أكثر من عشرين مليونا كما هي الآن إلا أنها بدت لي مدينة مرعبة. ولا أنسى كيف أنني مرة غادرت القطار في ميدان رمسيس فكدت أعود، ومرة أخرى ذهبت لأنام في مدينة حلوان ضاحية القاهرة التي كانت جميلة عند أحد الأصدقاء، ذهبت مضطرا لأنه كان يجب أن أبقى يوما أو يومين لأحصل على مكافأتي من مسابقة اشتركت فيها من بعيد. في صباح اليوم التالي ركبت المترو من حلوان إلى نهايته وقتها، منطقة باب اللوق، ومشيت إلى ميدان التحرير وحين رأيته أيضا باتساعه الرهيب عدت إلى حلوان لأحمل حقيبتي وأعود إلى الإسكندرية، إلا أن صديقي أقنعني بالبقاء ليلة أخرى لأن ما لي من مكافأة كثير جدا ذلك الوقت. خمسون جنيها عام 1972 وما أدراك ما الخمسون جنيها ذلك الوقت. اضطررت للبقاء يوما آخر وحصلت على أموالي وعدت، كأنني ولدت من جديد. لماذا إذن جئت أعيش في القاهرة؟ لأنه ذلك الوقت لم تكن هناك موبايلات، ولا إنترنت ولا طريقة لإيصال القصص أو المقالات غير البريد، وكثيرا ما كانت تضل طريقها. ثم إنني في الإسكندرية كنت أشعر بالراحة مع عدد من أجمل الأصدقاء من الكتاب في لقاء كل يوم اثنين بقصر ثقافة الحرية ـ اسمه مركز الإبداع الآن ـ وجميعنا لا نهتم بالسياسة، ولا بمشاكل البلاد مع أنور السادات، وكنت أرى أن القاهرة يتسع فيها المجال لذلك. كنت أشعر بأن في القاهرة أسبابا للنجاح وأسبابا للفشل، أما الإسكندرية الجميلة فتجعلك دائما تشعر بالرضا كأديب، لذلك جئت إلى القاهرة. لحسن الحظ عشت مع صديقين، رحمهما الله هما الشاعر أحمد الحوتي بعض الوقت، والمخرج سامي صلاح بعض الوقت، وكانت حياتي معهما صاخبة بالجنون والمسرات، وخاصة سامي صلاح. كما أنني وجدت نفسي وسط الحياة العربية فإلى مقهى ريش يأتي أدباء عرب من كل العالم العربي وعند الحاج مدبولي نجد كل الكتب الممنوعة والمطبوعة في بيروت ذلك الوقت. الحياة تتسع بروحي، لكن الإسكندرية تمشي معي أكثر.
أسال نفسي هل يحب هؤلاء الناس الوطن أم يعيشون حياتهم باستمتاع الزومبي بلحم البشر وكفى، غير مدركين ما يفعلونه من تشويه وحرمان للآخرين.
ما أجمل السهرات التي عشتها في القاهرة، لكن ما أن أعود إلى البيت حتى أنسى كل شيء وتستيقظ الإسكندرية لأكتب عنها. تمرّ الأيام وتتعدد زياراتي للإسكندرية التي أراها تفقد مع الوقت كثيرا من وجهها المتوسطي ـ نسبة إلى البحر المتوسط – وتدخل يوما بعد يوم جزيرة العرب الوهابية والسلفية، وأرى المسؤولين فيها يبدأون بردم بحيرة مريوط التي هي جنوب الإسكندرية، والتي كانت مع البحر شمالا مصدر إلهام لشاعر الأغاني محمد علي أحمد الإسكندري الأصل من حي راغب الشهير، حين كتب أغنيته «بين شطين وميه عشقتكم عنيا يا غاليين عليّ يا أهل اسكندرية» لاحظ أن هذا الشاعر الذي كتب أجمل أغنية عن الإسكندرية هو من كتب أجمل أغنية عن القاهرة « يارايحين الغورية». والأغنيتان معا غناهما محمد قنديل. لم يعد للإسكندرية غير شاطئ واحد هو البحر وامتدت جنوبا وشرقا وغربا، وقامت فيها العشوائيات التي ليس معناها الأحياء الفقيرة فقط، لكن نظم البناء المنحط التي تجعل العمارات ترتفع إلى خمسة عشر طابقا وأكثر في شوارع لا يزيد عرضها عن ستة أو عشرة أمتار.
لم أعد أحب السفر إلى الإسكندرية، لكنني ظللت طويلا أجد متعة في شواطئها، حتى وصلنا الآن إلى إغلاق الشواطئ ليس بالمباني فقط، لكن بتسخيرها للفنادق والمقاهي، وصار الدخول إليها لمن يدفع رغم حق الناس في الماء والهواء. لم يعد لها حتى شاطئ واحد. الأمر نفسه جرى على القاهرة. تشوهت كما الإسكندرية. في الإسكندرية ردموا المياه وفي القاهرة بنوا فوق الأراضي الزراعية المحيطة، وشمل البناء محافظة الجيزة الملاصقة للقاهرة. ثم دخلوا على الأحياء العريقة في وسط القاهرة، وتشوهت مثل السيدة زينب وعابدين وغيرها. لم أشعر بالتشوه الذي يجري في القاهرة، وكان حزني المستمر بسبب التشوه الذي يجري في الإسكندرية، فكانت ثلاثية الإسكندرية وغيرها. هل يصدق أحد أنني لم أشعر بالتشوه الذي يحدث للقاهرة، بينما أعيش في منتصفه. هذا ما حدث لأن روحي ظلت هناك. وحين كتبت عن القاهرة بدأت أشعر بالتشوه، لأنه كان عليّ أن أنتبه إلى الأحياء التي سأكتب عنها، فوجدت أكثرها لم يعد كما كان، فقد جماله.
حاولت أن أمسك بالجمال الضائع للقاهرة في رواية «هنا القاهرة» كما فعلت في الإسكندرية. الآن لا أجد المدينتين. طبعا يختلف الأمر مع الزائر العربي من الخارج لأنه يزور الأماكن الجميلة الباقية، ولا يدري شيئا عن ماضي كل من المدينتين ولا يعني هذا أنني أكره أيا منهما، لكنني أكره من أحدثوا هذه التشوهات كلها، في مواقع رسمية كانوا أم في مواقع رجال المال والمقاولات. هم لا يشعرون بما أحدثوه ويحدثونه في المدينتين، وفي كل مدن مصر العريقة، لأنهم باحثون عن المال لا الجَمال، لكن لأن هاتين المدينتين هما عمري أشعر بالجمال الضائع. كيف حقا تجد نفسك بعد هذا العمر خارج المدن. لست منفيا ولكن صار وطني هو ما أكتبه لا ما أراه، رغم أن ما كنت أراه يوما كان وطنا. اتسعت مقولة الجحيم هم الآخرون، لتخرج عن معناها الوجودي إلى معناها الاجتماعي السياسي المباشر، وكلما رأيت مشروعا لهدم عمارة من التراث أو إقامة كوبري وسط المباني العريقة، أو ردم ترعة مثل المحمودية، أو إقامة نواد على النيل للصفوة، كما يقولون وذات أسوار، أسال نفسي هل يحب هؤلاء الناس الوطن أم يعيشون حياتهم باستمتاع الزومبي بلحم البشر وكفى، غير مدركين ما يفعلونه من تشويه وحرمان للآخرين. أغلب الظن أنهم يضحكون، وحتى بعد أن يموتوا يطلون من السماء يضحكون علينا. نحن الذين صرنا خارج المدن.
٭ روائي من مصر
الجحيم هم العساكر والمناشير. العشوائيات صناعة عسكرية غبية. حين يحكم الوطن مجموعة من الجهلة الغلاظ الذي لا يفقهون إلا في كل ما هو مادي وحسي، لايعلمون ما هو الوطن، وما هي الثقافة الحقيقية، وليس الحظائرية، تجد مدنا رائعة، ووطنا أروع ، وحرية أكرم، وحياةأعظم. أما وطن العساكر المهزومين دائما أمام العدو، المنتصرين دائما على الشعب، فهوالجحيم بعينه.