حمل عدد «القدس العربي» الصادر يوم السبت الماضي افتتاحية عنوانها «لماذا يصمت «اليسار» العربيّ عن ثورة الجزائريين؟». ولمّا كانت «القدس العربي» معروفة بتعدّديتها السياسية والفكرية التي هي إحدى أهم ميّزاتها، ما كنتُ لألتفت للمقال المذكور لو جاء بقلم أحد الزملاء أو إحدى الزميلات كتّاب العواميد الأسبوعية، إذ أن هذه العواميد، وفق الأصول المعروفة، لا تعبّر سوى عن رأي من كتبها. أما الافتتاحية التي تحمل توقيع «القدس العربي»، فيُفترض بها أن تعبّر عن رأي الجريدة، ومسؤوليتها أكبر بالتالي، بما دفعني إلى التعليق.
هذا لأنني رأيت أن الافتتاحية المذكورة، بإطلاقها أحكاماً بالجملة، ابتعدت عن الدقّة والإنصاف. فقد انطلقت من تغريدة لمارسيل خليفة يحيّي فيها الثورة السودانية بكلمات وجدانية، بدون أن تذكر أن التغريدة كانت موجّهة «إلى ألاء صلاح»، تلك «الكنداكة» التي أُعْجِبَ العالم أجمع بوقفتها. وأضافت الافتتاحية إلى الموسيقي اللبناني زميله السوري سميح شقير، لأن هذا الأخير قام «بتقديم أغنية ترحّب بالثورة السودانية وتستخدم إيقاعات موسيقية منها».
ومن هذين المنطلقين الفنّيين، انتقلت الافتتاحية إلى التعميم، قائلة: «احتفلت أغلب الأحزاب اليسارية العربية أيضاً (أو ما تبقى منها) بالحدث السودانيّ وهو احتفال لم يتناسب مع اهتمام مشابه بالحدث الجاري في الوقت نفسه في الجزائر». أما سبب ذلك حسب الافتتاحية، فهو «النزعة الأيديولوجية البائسة التي ترى في الإسلاميين عدوّ [اليسار] الأساسي، وبما أن السودانيين ثاروا على نظام محسوب على أولئك الإسلاميين فإن هذه الثورة «حلال»، أما في حالة الجزائريين فلا تبدو حدود الأيديولوجيا واضحة، ناهيك عن أن النظام الجزائري، في حسابات اليسار، هو نظام تقدّمي»…
يغفل هذا الرأي القاطع جملة من الحقائق: أولاً، تشارك كافة أطراف اليسار الجزائري، بلا استثناء، في الحراك القائم في بلدها؛ ثانياً، تدعم هذا الحراك أبرز جماعات اليسار في الدول المجاورة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أصدر «حزب العمّال» التونسي، وهو أشهر أحزاب «الجبهة الشعبية» التونسية التي شملتها الافتتاحية في نقدها (يقوده حمّة الهمّامي)، أصدر بياناً في 11 آذار/مارس الماضي وصف بوتفليقة بأنه «واجهة لا غير لحكم جزء من البيروقراطية العسكرية ومافيات الفساد»، وأكّد «تضامنه مع الشعب الجزائري في نضاله المشروع من أجل الديمقراطية والسيادة الشعبية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل حقّه في الاختيار الحرّ لمن يحكمه». وماذا عن تغريدة حمدين صبّاحي، تعليقاً على تراجع بوتفليقة عن الترشّح: «تحية لشعب #الجزائر العظيم. أنجز خطوة هائلة نأمل أن تكتمل. لازال الصراع ضاريا بين الذين يسعون لاكتمال الحلم والذين يخططون لاحتوائه». أفَليس صبّاحي أكثر تمثيلاً لـ«اليسار العربي» مما هما الموسيقيان اللذان انطلقت منهما الافتتاحية؟
الوفاء لقِيَم الحرية والديمقراطية لا مصداقية له إن كان وحيد الجانب، أياً كان هذا الجانب، ولا بدّ من الدفاع عن هذه القِيَم في وجه أي حكم يطعن فيها، سواء ادّعى العلمانية والاشتراكية أو ادّعى الإسلام أو أية أيديولوجية أو ديانة أخرى
طبعاً، لا شكّ في أن بعض المحسوبين على «اليسار العربي» قد مدحوا دور المؤسسة العسكرية في الجزائر، وهي حال ذوي العلاقة النفعية بالحكم الجزائري وحلفاء الدكتاتوريات. بالنسبة للفئة الأولى، التي تشمل بعض المنظمات الفلسطينية التي بات الحكم الجزائري أحد مصادر تمويلها القليلة بعد زوال أخرى هي أسوأ منه كعراق صدّام حسين وليبا القذّافي، فلا يسع أي طرف عربي يرتهن بقاؤه بتمويل إحدى دول المنطقة بحيث لا يستطيع نقدها، أن يرمي بالحجارة أمثال «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» التي شملتها الافتتاحية في نقدها. طبعاً، ليس القصد هنا تبرير الكيل بمكيالين والسكوت عن بعض الأنظمة اللاديمقراطية اللذين هما سمتان شائعتان في منطقتنا بما يعكس أوضاعنا المزرية، لكن القصد هو التذكير باستشراء تلك الحالة الرديئة للغاية.
أما الفئة الثانية، فئة حلفاء بعض الدكتاتوريات لأسباب أيديولوجية، ولاسيما الذين يسكتون عن جرائم النظام السوري، أكثر الدكتاتوريات إجراماً في منطقتنا، فلا يُعقل أن يؤيّدوا ثورة الشعب الجزائري على نظام لا شكّ في أن انفتاحه السياسي أفضل بما لا يُقاس من استبداد نظام آل الأسد. لكن، كم عدد هؤلاء المؤيّدين للنظام السوري لأسباب بحت أيديولوجية؟ أَليس ثمة العديد من المحسوبين على اليسار يتبرّؤون من النظام السوري أو حتى يدينونه، لكنهم يرونه أفضل بعد من القوى المتشددة دينياً وطائفياً التي طغت على المعارضة المسلّحة له؟ وإذ يشمل اليسار السوري بضع جماعات تحمل مثل هذا الرأي الأخير، ألا يشمل أيضاً «حزب الشعب الديمقراطي»، الذي يقوده رياض الترك والذي لعب دوراً بارزاً في المعارضة السياسية لنظام آل الأسد؟ صحيحٌ أن الافتتاحية استدركت في نهاية حملتها على «اليسار العربي»، فبدأت فقرتها الأخيرة باستثنائها «بعض الأجنحة التي تجمع بين الطروحات اليسارية والديمقراطية»، لكنّ هذا الاستدراك القصير والمتأخر لا يشفع للحملة بما احتوته من تجنٍّ.
أخيراً وليس آخراً، استندت الافتتاحية إلى تصوّر خاطئ لما يجري في الجزائر والسودان سواءً. فقد صوّرت الحكم الجزائري وكأنّه عدوّ «الإسلاميين» اللدود لكونه خاض حرب تصفية ضد «جبهة الإنقاذ الإسلامية» ومن انبثق عنها في التسعينيات. وهذا تجاهلٌ لكون فرع جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر («حركة مجتمع السلم») قد انتقد «جبهة الإنقاذ» وعمل بصورة شرعية طوال التسعينيات، لا بل دخل الحكومة الجزائرية بوزيرين في عام 1996، ثم بسبعة وزراء في حكومة العام التالي. وقد أيّد «الإخوان المسلمون» ترشيح عبد العزيز بوتفليقة إلى رئاسة الجمهورية في عام 1999 وشاركوا في الحكومات المتعاقبة التي عملت تحت إشرافه. وقد دعموا ترشيحه لعهدة ثانية في 2004 وثالثة في 2009، ولم يكفّوا عن دعمه سوى في انتخابات عام 2014 بعد أن نشبت خلافات في أوساطهم حول ذلك الدعم. وفي ضوء هذا التاريخ، يرى قسمٌ هام من المشاركين والمشاركات في الحراك الجزائري أن «الإسلاميين» الجزائريين في «حركة مجتمع السلم» إنما هم جزء من «المعارضة الموالية» للنظام العسكري (شأنهم في ذلك شأن «حزب العمّال» اليساري الذي تقوده لويزا حنّون) وليسوا من أعدائه.
أما بالنسب للسودان، فتقول الافتتاحية أن عمر البشير «الذي جاء على ظهر الإسلاميين، انقلب عليهم وسجن زعيمهم حسن الترابي، وتبرأ منهم حين احتاج». وهذا أيضاً تغافلٌ عن بعض الوقائع: صحيحٌ أن البشير «جاء على ظهر الإسلاميين»، والحال أن «الإخوان المسلمين» السودانيين بقيادة حسن الترابي شاركوا بامتياز في الانقلاب العسكري على حكومة صادق المهدي المنتخبة، وكانوا دعامة لحكم عمر البشير طيلة عشر سنوات بين انقلاب 1989 والخلاف على السلطة الذي نشب بين البشير والترابي في عام 1999.
وقد انشقّ «الإسلاميون» السودانيون آنذاك بين الذين واصلوا العمل من خلال «حزب المؤتمر الوطني» الحاكم، والذين التحقوا بالحزب الجديد الذي أسّسه الترابي، «حزب المؤتمر الشعبي». واستمر هذا الحزب الأخير في المعارضة حتى عام 2014، حين تقرّب من جديد من سلطة البشير (كان ذلك قبل وفاة الترابي بسنتين)، ثم أخذ يشارك في الحكومة السودانية وبقي مشاركاً فيها حتى اندلاع الثورة السودانية وسقوط البشير. وأما الموقف الراهن للحزب المذكور، فيتركّز بالتناغم مع الجماعات السلفية على دعوة المجلس العسكري إلى عدم «الرضوخ» لمطالب قيادة الثورة السودانية، ألا وهي «قوى إعلان الحرية والتغيير».
ختاماً، دعنا نتفق على أن الوفاء لقِيَم الحرية والديمقراطية لا مصداقية له إن كان وحيد الجانب، أياً كان هذا الجانب، ولا بدّ من الدفاع عن هذه القِيَم في وجه أي حكم يطعن فيها، سواء ادّعى العلمانية والاشتراكية أو ادّعى الإسلام أو أية أيديولوجية أو ديانة أخرى.
كاتب وأكاديمي من لبنان
اسف لان التعليق الاول هو خطا بسبب الكومبيوتر ولا علاقة له بالمقال
لا يوجد لدينا احزاب حقيقية تمثل اليسار او حتى اليمين لانها كلها مرهونة بثقافة مجتمعاتنا التي تعشعش فيها العشائرية والطائفية والبعث في العراق وسوريا مثالان صارخان على ذلك اما الاحزاب الاسلامية فهي بالاساس لا وطنية ولا قومية لان الدين عابر لالاوطان وهمها الوحيد تطبيق الشريعة وان كان على حساب وحدة الوطن وحماس مثالا صارخا كذلك اما الفساد فهو يمثل الجميع بدون استثناء لان الوطن لديهم مباح والعراق الحالي مثالا صارخا كذلك
ممكن استثناء الاحزاب الشيوعية العربية قد تكون الوحيدة التي قدمت امور جيدة لاوطانها كما في اليمن الجنوبي حيث قبلت الوحدة مع الشمالي وكذلك الشيوعي العراقي في السبعينات على عهد الجبهة الوطنية مع البعثيين