منحت الجزائر المواطن الفرنسي بيير أودان الجنسية الجزائرية، باعتباره ابن موريس أودان الذي مات من أجل القضية الجزائرية سنوات الاستدمار الفرنسي، ويعتبر المنح للجنسية اعترافا من السلطة الجزائرية بوطنية ومواطنية موريس أودان، إذ الجنسية ليست علاقة بالجغرافيا فقط، بل هي تاريخ يشكل الجغرافيا حدثيا وقيميا.
شارك في الثورة الجزائرية متعاطفون ومساندون وفاعلون كثر، فرنسيون وأوروبيون، وناضلوا من أجل انتصار العدالة، ولعلنا نذكر هنري علاق وكتابه المهم «المسألة»، الذي صدر عام 1958 عن التعذيب، وأكد فيه أن «التعذيب كلمة أصبحت مألوفة لدينا منذ زمن، فالقليل منا هنا نجا منها»، وسارتر وبيان 121 الذي ندد بالاستعمار الفرنسي، وانضم إلى سارتر أندري بروتون، سيمون دو بوفوار، ناتالي ساروت، آلان روب غرييه، مارغريت دوراس وآخرون، وجاك فيرجيس الذي ندد في كتاب مشترك مع جورج آرنو «من أجل جميلة بوحيرد» بالتعذيب الذي تعرضت له هذه المناضلة.
إن الأساس التاريخي للثورة الجزائرية يجعلها عنصرا ملهما للذات الفردية والجماعية، فإن ينخرط شخص ما من خارج الدائرة الإثنية الوطنية، يكشف أنثروبولوجيا، كيف تشتغل الذاكرة الجماعية في توافقها التاريخي، على نشأة الحركة الإنسانية في نضالها من أجل الحرية، وما يتطلبه ذلك من مسؤولية واختيار، فلم يضرب أحد على يد أودان لكي يضحي بحياته من أجل قضية عادلة.
إن قرار منح الجنسية لبيير أودان في حقيقته قرار سياسي، لكنه يمثل الوجه العملي لتفجرات التاريخ في الراهن السياسي، أو تفاعل السياسي الراهن مع التاريخي الماضوي، وهو ما يمثل، سواء عن وعي أو بدونه، التوظيف التاريخي للأحداث، التي تؤثر في مسار الراهن السياسي، أي شحن هذا الأخير بمفاعيل التاريخ، والشحن لا يعني أن يُؤَتْرَخَ Historiser الراهن، أي نسج الواقع وفق رؤى الماضي، ولكن يعني الاستفادة من المنظور النبيل الذي حرك التاريخ الثوري نحو أهدافه وغاياته المنشودة في المسار الوجودي الفعال.
السؤال الملح الذي يصر على الطرح، هو الاستراتيجية، التي تم وفقها التفكير في قرار منح الجنسية الجزائرية لبيير أودان؟ القرار يعتبر إعادة اعتبار للتاريخ وللثورة الجزائرية، باعتبارهما الهوية النضالية التي ساهمت في تكريس الجزائري كبنية ثورية تمخضت عن موقف ثوري اتجاه سياسة إحلالية، تستهدف الشخصية الوطنية بالمحو، فإعادة الاعتبار للتاريخ الثوري عبر منح الجنسية، إنما يمثل علامة إحياء مفهوم الهوية في التاريخ، بما يتلاءم وقيم الحرية والعدالة والنضال المستمر، وهو المعطى الجوهري الذي يبني حركة المواطنة والوطنية، كمفهومين متلازمين في الوجود التاريخي للجزائري ما بعد الكولونيالي، باعتباره ذاتا نشأت في وضع متمرد على القيد الاستعماري. إن التجاذبات السياسية التي تتيح سلطة المنح أو المنع للجنسية، باعتبارها التواصل القانوني مع الدولة، أو العلاقة التي تفصل بين الوجودين العاطفي والقانوني، تجعل من الكيان الشخصي داخل جهاز الدولة وجودا معتبرا من حيث التوافق مع السلطة أو معارضتها، ومن هذه الزاوية تنبثق أهمية ما أسميه «الأودانيزم» Audanisme، نسبة إلى «أودان» Audin، في هيكل الراهن السياسي، لكن باعتبارات تاريخية، فبيير أودان من ناحية الموقف السياسي، يُعتبر انتماؤه شرعيا للكتلة الوطنية، ولو وفق المنظور المعنوي، لهذا انخرط في تيار المطالبة بإطلاق سراح الصحافي خالد درارني، فالمسؤولية التاريخية التي تحملها والده، تكرست وطنيا وإنسانيا في حركية الابن الراهنة، اتجاه الوطن التاريخي كمسؤولية أخلاقية، فهل كان المنح وفق استراتيجية الشعور السياسي والتاريخي للمناضلين الكونيين، الذين انخرطوا في مسار الاسترجاع للسيادة الوطنية، وبالتالي يصبح مفهوم السيادة والحرية شعورا مستمر في في التاريخ مكرسا في مراحله الوجودية؟
يروي الصحافي جان شارل دينيو، في كتابه «حقيقة موت موريس أودان»، كيف أن بول أوساريس أسر إليه قبل موته قائلا: «لا، موريس أودان لم يتبخر هكذا من الطبيعة بعد هروبه في يونيو/حزيران 1957 لكنه أعدم بقبول ورضا تامين من السلطات السياسية».
يمثل «الأودانيزم» حالة وعي بالوطن والعدالة، لا باعتبارهما قيمتين نابعتين من التواصل الجنسياتي بالجغرافيا/الدولة، ولكن من حيث تداعيات التاريخ على الوعي، فالمسلك الأوداني يقود الوعي الوطني بالقضية التاريخية الثورية إلى المسلك الكاموي، نسبة إلى ألبير كامو، الذي قال في 12 يناير/كانون الثاني 1957: «أؤمن بالعدالة، ولكنني أدافع عن أمي قبل العدالة»، وهو المفهوم الذي يؤسس الانفصال بين الوطن والعدالة، في بعدهما الإنسانيين، ففي مواعيد اللقاء مع القضايا العادلة في العالم، تمحى الحدود بين الوطن/الأم والعدالة، لأنهما أفقان غير منفصلين، فتصبح «الكاموية» نقيضا منهجيا ورؤيويا «للأودانيزم»، وينكشف ذلك عند دعوة ألبير كامو في 22 يناير 1956 للاستعمار الفرنسي ومسؤولي جبهة التحرير الوطني، توقيع هدنة ووقف الحرب، فلقيت الفكرة استياء من قبل الطرف الاستعماري، ونودي بـ»الموت لكامو»، لأن الاحتلال باعتباره فاقدا للشرعية، لا يمكن أن يعترف بالشرعية الأصيلة، إلا تحت ضغط القوة، وأيضا رُفِض المقترح من قبل الجزائريين، لأنه يمثل رؤية تساوي بين الضحية والجلاد، وفي المنطقة الرمادية هذه تنبثق أهمية «الأودانيزم» باعتباره انخراطا في صف المظلوم لاستعادة حريته، وحقه المشروع في السيادة على أرضه، فالرؤية الكاموية تمثل محاولة لتكريس شرعية استعمارية، انطلاقا من الانحياز للأم/الوطن على حساب الحق الشرعي لأمة في الوجود، بينما يمثل «الأودانيزم» قطيعة مع الاستعمار/الأم وانتصارا للوطن/العدالة.
يروي الصحافي جان شارل دينيو، في كتابه «حقيقة موت موريس أودان»، كيف أن بول أوساريس أسر إليه قبل موته قائلا: «لا، موريس أودان لم يتبخر هكذا من الطبيعة بعد هروبه في يونيو/حزيران 1957 لكنه أعدم بقبول ورضا تامين من السلطات السياسية»، وهو ما أثار زوبعة سياسية في فرنسا وأسند موقف جوزيت أودان في المطالبة بالكشف عن حقيقة قتل زوجها، تماما كما حرّك كتاب هنري علاق «المسألة» الضمير الفكري والسياسي لبعض الفرنسيين في إدانة التعذيب، والمطالبة بإنهاء الاستعمار في الجزائر، لأن الحقيقة الثورية تولد فهما توافقيا بين الضرورة التحررية والفعل النضالي، بما منح القضية العادلة عمقا عالميا وبعدا أخلاقيا، أهّل الموقف الوطني إلى امتلاك استراتيجية الاحتواء والاستيعاب للمبادرات الفردية والجماعية كعناصر وطنية، تعدد وتنوع مناطق النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي والتحرري، فتبرز عدالة القضية على رأس أولويات الأم/الوطن، ولو اختلفت الجغرافيا، فالأرض تاريخ الكينونة البشرية بحسبانها فعلا عابرا للنظام الذي يستهدف عالمية الإنسان المناهض للظلم والعبودية والاستغلال.
٭ كاتب جزائري
كان موريس أودان مناضلا في الحزب الشيوعي الجزائري يناصر المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. اعتقل وتعرض للتعذيب حتى الموت سنة 1957… هنالك ساحة تحمل اسمه في العاصمة الجزائرية. لكن المؤسف أن النظام لا يزال يمارس تمجيد الحالات و الأحداث التي عرفتها حركة التحرير حتى بعد مرور ما يقرب من ستين سنة على الاستقلال من أجل دغدغة مشاعر المواطنين. تمجيد الصفحات الجميلة من الماضي شيء إيجابي لكن التطلع نحو المستقبل أهم من ذلك بكثير…وها هو الكاتب يطرح علينا مفهوم الأدونيزم المشتق من الاسم العائلي Audin. ويجب أن لا ننسى أن عشرات الآلاف من الجزائريين تعرضوا للتعذيب حتى الموت ومنهم القائد التاريخي العربي بن مهيدي الذي اعتقل في نفس السنة وتم تعذيبه و إعدامه بالرصاص من لدن كتيبة عسكرية.