على الرغم من التطور الذي عرفه عالم النشر العربي في العقدين الأخيرين، يلاحظ في هذه المسيرة أنّ التواريخ الثقافية والاجتماعية بقيت تعاني التهميش، بينما ظلت الأولوية للترجمات في الإسلاميات، أو عالم السياسة، وهذا موضوع كان الروائي العراقي الراحل سعد رحيم قد ناقشه بأسلوب ذكي في روايته «مقتل بائع الكتب»؛ كان بطل الرواية (صاحب مكتبة في مدينة بعقوبة العراقية) يجلس في مكتبته بُعيد أيام من الاحتلال الأمريكي للعراق، وإذا بدورية أمريكية تقتحم المكتبة، لتقوم بقلبها رأسا على عقب، وخلال هذه اللحظات تقدم منه ضابط أمريكي ليسأله إن كانت المكتبة تحتوي على كتب معادية لأمريكا، فما كان من صاحب المكتبة إلا أن ردّ بالقول «نصف كتب العالم العربي تتحدث عن أمريكا» في إشارة لثقل الأيديولوجيات السياسية، والهموم الدولية على اهتمامات القارئ العربي خلال الخمسين سنة الماضية وأكثر، وهي هموم ظنّ المثقف العربي أنّ حلولها قد تكمن في الاطلاع على كتب وخفايا العلاقات الدولية، لتغدو أحياناً اهتماماته صغيرة، ويبدو منعزلاً عن العالم، وقد ينطبق الأمر ذاته بلا شك على قرّاء التراث الإسلامي، الذين انعزلوا أيضا في قراءاتهم، وكانت النتيجة مزيداً من انسداد الأفق، وسرديات فقيرة ومؤدلجة عن التاريخ الإسلامي، والأهم من ذلك العالمي الذي انقطعوا عنه.
ولا يعني هذا الواقع القول بأنّ الساحة العربية بقيت جافة على صعيد التواريخ الثقافية، بل نعثر على بعض الجهود في هذا السياق، كما في مشروع كلمة للترجمة الذي ساهم بدور كبير في التعريف بتواريخ ثقافية عالمية مختلفة، كتاريخ الطبخ والطعام والرحلات وتاريخ الأمراض والحيوانات.
في هذا السياق أيضاً، نعثر مؤخراً على كتاب طريف بعنوان «لماذا غيّر السكر تاريخنا؟» من إٍصدارات الدار العربية للعلوم، ترجمة فاطمة النعيمي.
مؤلفا الكتاب زوجان، يعمل الزوج مؤلفا وناشرا، بينما تعمل الزوجة روائية تنقّب في أعمالها عن الأصوات المفقودة والمهمشة، وهي تنتمي بالأصل إلى عائلة هندية، هاجرت في القرن التاسع عشر من بلادها إلى مستعمرة غيانا البريطانية في جزر الكاريبي، للعمل في مزارع السكر، وهناك تمكن جدها من اختراع طريقة جديدة لصناعة السكر. ولم يكن هو الوحيد الذي هاجر من بلاده، بل كان يعمل إلى جانب الآلاف من العمال الأفارقة والهنود، ممن أجبروا على الرحيل للعمل وخاضوا العذاب في سبيل تحلية أذواقنا، بيد أنّ قصصهم بقيت منسية.
ولأن المؤلفة كما ذكرنا مولعة بتاريخ المنسيين، ستقرر برفقة زوجها تأليف كتاب عن التاريخ المنسي للسكر، وهو تاريخ سيبدو لنا أسود خلافا للون السكر الأبيض، وأيضا تاريخا ثقافيا عجيبا، على صعيد التلاقي بين الامبراطوريات، وعلى صعيد الطقوس والأغاني التي ألفها العمال في هذه المهنة القاسية للرد على واقعهم الصعب.
قرر الزوجان في البداية البحث في الأعمال الأنثربولوجية التي تناولت تاريخ السكر، وسرعان ما وجدا نفسيهما يخوضان رحلات طويلة في عالم سجلات دول أمريكا الجنوبية والهند والصين والعالم الإسلامي، للتعرف أكثر على حال العمال والفلاحين في عالم زراعة وإنتاج السكر، وكيف كانوا يعيشون. وربما الجميل في الكتاب، أنّ البصمة الروائية للزوجة كانت واضحة، ما أغنى أسلوب السرد في الكتاب، وربما هذا الأسلوب الروائي، الذي ما نزال نفتقده في عالمنا العربي، يدعم بعض الاستنتاجات في حقل العلوم الإنسانية، التي ترى أنّ الروائي اليوم غدا وريث المؤرّخ.
ستبدأ قصة الكتاب بتاريخ عائلي، قبل أن يعود بنا للماضي بأسلوب سردي سحري، إلى الهند وطقوسها الدينية، التي كانت، حسب المؤلفين، أول مكان تكتشف فيه مادة السكر، بيد أنّ هذا الاكتشاف بقي محدوداً كما يذكران، وظل السكر خلال هذه الفترة كدواء. لكن التطور سيحدث في هذا العالم مع قدوم الإسلام للمنطقة، فقد أخذ الحكام المسلمون أراضي الإسكندر القديمة في أفغانستان، ومن هناك اجتاحوا شمال الهند وتعلموا أسرار السكر، وعلى الرغم من أنّ المؤلفين حاولا دعم كلامهما هنا بعدد من الروايات، إلا أنها بدت لنا أحيانا غير مقنعة، وربما هذا البعد الأسطوري للهند بوصفها مصدر كل الأشياء، كما نفعل أحيانا في عالمنا الإسلامي، ناجم عن الأصول الهندية للمؤلفة.
يؤكد المؤلفان على أنّ المسلمين تمكنوا من نقل كيفية زراعة القصب الحلو وصقله، وبدأ المسلمون باستخدامه، وغدا مع الأيام ترفا وعلامة على ثروة وسخاء السلاطين.
أخذت مصر تتحول إلى مختبر كبير للسكر في العالم، وكان المزارعون يعصرون القصب، ثم يغلون السائل ويصفّونه، وبعد ذلك يصبون عصير القصب في قوالب مثقوبة القاع، بحيث يمكن تصريف السائل، وترك المسحوق فقط، ثم يخلط هذا المسحوق مع الحليب بأنواعه ويغلى مرة أخرى. وكما يذكر المؤلفان، بينما كان المسلمون يتمتعون بمذاق السكر، كانت أوروبا تعاني من العزلة. تسير بنا المؤلفة إلى وليمة في قلعة من القرون الوسطى الأوروبية، لنكتشف معها أنّ الوجبة تتكون من لحوم تقدم على الخبز بدلا من الصحون، كما أنّ اللحوم عادة ما كانت تقدم بدون توابل، أما السكر، فقد بقي مادة مفقودة وغالية الثمن. وقد استمر الحال على ما هو عليه حتى بدأت الحملات الصليبية أواخر القرن الحادي عشر، وحسب المؤلفين لم تكن هذه الحملات مجرد معارك، بل أيضا عملية تبادل للمعلومات، كما ساهمت في تعريف الأوروبيين بالسكر، إذ لاحظوا في حملاتهم بعض النباتات الناضجة، التي كان المحليون يسمونها قصب العسل، والتي كانت تشبه إلى حد كبير الخيزران، ورغم فشل الحملة لاحقاً، إلا أنّ الأوروبيين تمكنوا من نقل مهارات زراعة قصب السكر إلى صقلية وقبرص.
في القرن الخامس عشر، أخذت إسبانيا والبرتغال تتنافسان لاستكشاف ساحل افريقيا وإيجاد طريق بحري إلى توابل آسيا، بدون وساطة البندقية والمسلمين. وقد حمل أحد التجار أو الكهنة، وفقا لبعض الروايات، قصب السكر معه على متن سفينته، كان هذا الرجل يدعى كريستوف كولومبس، والذي سترسو سفنه بالخطأ في مكان سماه هيسبانيولا ( هايتي والجمهورية الدومينية الآن) لتبدأ أولى بذور زراعة السكر في هذا العالم الجديد. وخلال عقود قليلة غدت البرازيل مركزاً لصناعة السكر، خاصة مع تطور إمكانية شحن العبيد من افريقيا، وعلى مدار أربعمئة سنة لاحقة نقل نحو ثلاثة ملايين افريقي إلى البرازيل، ومن هنا ظهر المثل الشائع: «لا برازيل بدون سكر، ولا سكر بدون عبيد».
بيد أنّ صناعة السكر ستتراجع مع بداية القرن العشرين، مع اختراع مادة السكرين الكيميائية، إلا أن ذلك لا ينفي أنّ هذه الصناعة قد غيرت العالم، وساهمت في ولادة جغرافية بشرية عالمية جديدة، إذ يعيش اليوم أحفاد الأفارقة والهنود في منطقة بحر الكاريبي في البرازيل والولايات المتحدة وكندا، كأثر من آثار عالم ويوميات السكر المرة.
كولومبوس والسكر
في مزارع السكر، لم تكن أكواخ العبيد سوى حظائر مفتوحة بنيت في الأماكن الرطبة، بينما أدارت النساء المطاحن التي تعصر القصب بدون راحة، ولاحظ الرحالة مرارا أنّ هناك عددا من العاملات ذوات ذراع واحدة بسبب فقد الأخرى خلال العمل. وعلى الرغم من هذه الحياة تمكن الأفارقة من التعبير عن الظلم الذي عاشوه عبر الموسيقى والرقصات والأغاني، التي تحمل مشاعرهم وهمومهم اليومية، ففي بورتريكو اخترع عمال السكر نوعا من الرقص أقرب إلى المحادثة الإيقاعية بين امرأة ورجل، ولم تكن الأغاني تتضمن كلمات تنم عن غضب، أو تمرد، لكن تأرجح الراقصة وصوت الطبول، كانا يقولان إن هؤلاء ليسوا مجرد عبيد، ولم يولدوا فقط ليعملوا ويموتوا، بل ها هم على قيد الحياة، يتحدثون إلى بعضهم بعضا بحركاتهم وأصواتهم الخاصة. وفي كوبا سرد عمال السكر قصصهم في كلمات وألحان زومبا، وتقول إحدى الأغاني «الرئيس لا يردني أن أقرع الطبل» وبالمثل في البرازيل، وجدت رقصة تسمى «ماكوليليه»، وتشتمل على العصي أو سيقان قصب السكر، وتبدو قريبة من تدريب على القتال بدون تحدي السادة.
حلاوة الشاي
في عام 1615، طلب أحد الرجال الإنكليز من صديق له يعمل في شركة الهند الشرقية في اليابان، شراء علبة من أفضل نوع من الـ»تشاو» (الشاي). وكانت هذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها شخص أوروبي هذا المشروب، فقد كان الأوروبيون الوحيدون الذين يعرفون الشاي هم البرتغاليين الذين سيطروا على مدينة بومباي التجارية، لذلك كانوا السباقين إلى هذا الشراب، ومع دخول السكر إلى الشاي، كان الأطباء البريطانيون قد وصلوا إلى فكرة تقول بأن شربه جيد لصحتهم، ولذلك أخذ البريطانيون يشربون كميات كبيرة منه. ومنذ عام 1750، غير السكر أسلوب أكل الأوروبي، فبدأ الطباخ بتقسيم وجبات الطعام، فقد كان السكر يستخدم سابقا كتوابل بينما الآن تمت إزالته من وصفات اللحوم والأسماك، واخترعت فكرة أنّ تكون الوجبات السكرية خاتمة حلوة للوجبة. كما لاحظ كاتب اسكتلندي في آواخر القرن الثامن عشر أنّ الشاي أصبح بديلا اقتصاديا عن الخمور بالنسبة للطبقات الوسطى والدنيا، خاصة أنّ الشاي المحلى بالسكر، لم يكن مشروبا فقط، بل غدا وجبة غذائية مليئة بالسعرات الحرارية. ومع هذا التطور الغذائي، أخذت بعض المعامل توفر استراحة للعمال، لأخذ مزيد من الشاي والسكر، أو بالأحرى للتزود بدفعات من الطاقة، وربما يمكن القول إنّ ساعة الاستراحة التي نعرفها اليوم في مؤسساتنا، أي استراحة الغداء، هي سليلة هذه الفكرة، فليس الهدف من هذه الساعة، بل التزود بالطاقة والعودة للعمل. وفي الكتاب فصول أخرى تتناول معارك السكر والحرية في فرنسا وبريطانيا، وأيضا قصص عشرات الأغاني في جامايكا التي غناها العبيد للتعبير عن الظلم الذي عاشوه بسبب السكر. ومع اقتراب القرن التاسع عشر، كان العبيد قد تمكنوا من تغيير المعادلة، وأصبحوا أحرارا، ولذلك أخذ البريطانيون يبحثون عن يد عاملة جديدة، ليعثروا عليها في الهند، وكان من بينهم جدّ المؤلفة.
بيد أنّ صناعة السكر ستتراجع مع بداية القرن العشرين، مع اختراع مادة السكرين الكيميائية، إلا أن ذلك لا ينفي أنّ هذه الصناعة قد غيرت العالم، وساهمت في ولادة جغرافية بشرية عالمية جديدة، إذ يعيش اليوم أحفاد الأفارقة والهنود في منطقة بحر الكاريبي في البرازيل والولايات المتحدة وكندا، كأثر من آثار عالم ويوميات السكر المرة.
٭ كاتب سوري
كنت برحلة للفليبين, وشاهدت مصنع إنتاج السكر الأسمر من قصب السكر, أما السكر الأبيض فله مصنع آخر!
كان المصنع يساعد العمال في السكن والكهرباء وووو, وعندما أفلس المصنع, هاجر العمال!! ولا حول ولا قوة الا بالله
المغرب من أوائل الدول في العالم التي عرفت صناعة السكر، وكان من صادراته إلى أوربا على عهد السلطان مولاي إسماعيل، وكتب التاريخ تشهد على ازدهار الصناعة المغربية الغذائية زمنه ولعل هذه فرصة في الاتجاه نحو التصنيع أضاعها المغرب في القرن الرابع والخامس عشر.
تحية لك اخي نعم قيل لنا في مقررات التاريخ الوطني ان مدينة بني ملال كانت
–
مقر صناعة السكر على كل حال المقال ممتع كعادة مقالات السيد الكاتب محمد تركي
–
الربيعو تحياتي
مقال ممتع.