تبون و«مضمار المقاتل»

حجم الخط
21

لأول مرة منذ إقرار التعددية الحزبية في الجزائر قبل 30 عاما، تدعم أحزاب السلطة مرشحا بعينه، ثم يخسر انتخابات رئاسية مصيرية.
إلى شهور مضت، كان دعم حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي لأي مرشح يعني بالضرورة فوزه المضمون والكاسح. فعلاوة على الخزان الشعبي الذي يتمتع به الحزبان في كامل ربوع البلاد، واستحواذهما على الموارد الإدارية في مختلف مستويات المسؤولية، يمعن قادة هذين الحزبين، بلا نقاش أو تفكير، في تلبية رغبة السلطة الحاكمة في الاستفادة من الحزبين واستعمالهما في تحقيق مآربها الانتخابية والدعائية، والتضليلية عندما يتطلب الأمر.
هذه المرة انحاز التجمع الديمقراطي وجبهة التحرير، وهما جهازان بيروقراطيان أكثر منهما حزبان سياسيان بالمفهوم المتعارف عليه، إلى مَن سمياه «مرشح القطب الوطني»، عز الدين ميهوبي.
والنتيجة أن خسر ميهوبي وفاز بالرئاسة عبد المجيد تبون. ومن عجائب السياسة في الجزائر أن تبون منتسب لجبهة التحرير وعضو في لجنتها المركزية، أعلى هيئة مديرة، لكنه اختار الترشح «مستقلا» فدعمت الجبهة مرشح حزب آخر!
فلماذا فاز تبون رغم أنه دخل الانتخابات من دون دعم حزبي وبلا قاعدة شعبية ومن غير ضمانات إدارية، ناهيك عن أنه بدأ متعثرا وتعرّض شخصيا، في ذروة الحملة الانتخابية، لهزات ولحملة شعواء من مجمع «النهار» الإعلامي الذي اشتهر بدعمه الأعمى لعصابة بوتفليقة طيلة أكثر من عقد وإلى آخر لحظة قبل سقوطها؟ (من عجائب السياسة الجزائرية أيضا أن «النهار» كان سبَّاقا لتهنئة تبون بالفوز).
خسر ميهوبي وفاز تبون لأن اللعبة داخل النظام انتقلت إلى ملعب آخر، وقواعدها تبدّلت. البداية في كون النظام حافظ على شكله وغيّر أساليبه. في الانتخابات السابقة كان من مصلحة النظام أن يبدو مرشحه («المستقل» دائما وأبدا) قويا متماسكا واثقا في نفسه، لأن ثقافة هذا النظام ومزاجه لا يقبلان ممن يرمز إليه، أو يمثله، أن يبدو مهزوزا ومرتبكا.
اليوم اهتدى النظام، بعد أن تآكل من الداخل وحاصره الحراك الشعبي من الخارج، إلى تقمص دور الضحية: من ادعاء أن فرنسا تتربص به وتتآمر عليه ليلا ونهارا، إلى بكائيات العنف المزعوم الذي تعرّض له الناخبون في المهجر، وصولا إلى متاعب مرشحه «المستقل»، تبون، الذي يتخلى عنه حزبه ويتعرّض لكل أنواع المضايقات والإهانات السياسية والإعلامية.وقد نجح إلى حد كبير دور الضحية الذي تقمصه النظام وجسّده تبون. لكن ليس بسهولة، إذ تطلب الواقع الجديد أن يخضع تبون لمجموعة من الاختبارات ويمر عبر «مضمار المقاتل» ليكون فوزه مستحَقّا.
«مضمار المقاتل» الذي تضمن تأهيل تبون بدأ في ما اصطلح عليه الجزائريون بـ» واقعة المقبرة»، في صيف 2017، واستمر عندما أقاله شقيق المخلوع بمكالمة هاتفية كلّف بها خادمه أحمد أويحيى. آنذاك برز تبون كمقاتل ضد الفساد وعدو للعصابة. استمر التأهيل هادئا إلى أن اتُخذ قرار تنظيم الانتخابات الرئاسية فقفز اسم الرجل بسرعة إلى الواجهة (يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر، في اليوم التالي للكشف عن قائمة المرشحين، تصدّر الصفحة الأولى لجريدة «المجاهد» الحكومية هذا العنوان: «المجلس الدستوري يمنح الضوء لخمسة مرشحين»، مرفوقا بصورة لرئيس المجلس كمال فنيش. ثم صورة لتبون بمفرده مرفوقة بعنوان: «تبون يكشف عن برنامجه.. تحقيق تطلعات الشعب في التغيير». هل هي صدفة أن اختار «المجاهد» إبراز تبون دون المرشحين الآخرين؟ الصدف واردة مع كل الصحف الجزائرية إلا «المجاهد»).

 هل يستطيع تبون فك ارتباطه مع النظام مثلما فك هذا النظام ارتباطه مع الحزبين الجهازين. لا شيء يمنعه من أن يحاول، لكن أن ينجح فتلك قصة أخرى تحتاج إلى معجزة

بعد ذلك بقليل دخل «مضمار المقاتل» مرحلته الأخيرة التي تضمنت تقلبات متنوعة وهزّات كثيرة أبرزها استقالة مدير حملة تبون، الدبلوماسي المخضرم عبد الله باعلي، والحملة التي قادتها عليه مؤسسة «النهار» الإعلامية.
مع حملة «النهار» الشرسة استقر في المخيال الجمعي لشعب يكره «الحقرة» وينتصر بالفطرة للمظلوم، أن تبون ضحية فعلا. و»المحقور» في المخيال الجمعي لهذا الشعب يستحق الدعم.
حتى عندما انتهت الانتخابات، امتنع الخاسرون الأربعة عن خوض مغامرة المساس برداء الضحية عند الفائز ومعسكره. كلهم شعروا بأنهم تعرّضوا لظلم وغُبن، وكلهم امتنعوا عن الطعن في نتيجة الاقتراع. لم يقل أحد منهم صراحة أن النتيجة مشكوك فيها، لكن قالتها ملامح وجوههم وتصريحات بعضهم من قبيل «حفاظا على استقرار البلاد لن أعلّق على النتيجة». وهي تصريحات لجأ إليها الخاسرون ليحفظوا ماء الوجه من جهة، وحتى لا يشوّهوا صورة الضحية في المحطة الأخيرة من «المضمار» من جهة أخرى.
نحن الآن أمام خارطة جديدة: بتوجيهه جبهة التحرير الوطني والتجمع الديمقراطي إلى الوجهة التي أراد في هذه الانتخابات، يكون النظام قد قرر التخلص من هذين الجهازين، وأرسل رسالة علنية واضحة بأنه فك الارتباط معهما.
أصبح مشروعا بعد اليوم التساؤل عن مستقبل هذين الحزبين.
وسيكون مشروعا، وقد أصبحت الانتخابات وراءنا، التساؤل هل يستطيع تبون فك ارتباطه مع النظام مثلما فك هذا النظام ارتباطه مع الحزبين الجهازين.
لا شيء يمنعه من أن يحاول، لكن أن ينجح فتلك قصة أخرى تحتاج إلى معجزة يتحرر بها الرجل، المعروف بانضباطه السياسي والوظيفي، من قبضة النظام وترسباته وتناقضاته.
لا يحتاج تبون إلى «مضمار مقاتل» آخر. أسابيع قليلة ستكفي ليتذوق الجزائريون طعم ما ينتظرهم معه.

*كاتب صحافي جزائري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عفاف عنيبة:

    أحترم وجهة نظرك فقد سبق و أن قلت لجبهة التحرير الوطني ستخلدون في الحكم في حالة ما كنتم مستقيمين أما الرئيس تبون شعبنا شعب ناضج سيحاسبه علي أداءه في الميدان حاليا نركز من نحن في الداخل الجزائري علي إيجاد السبل القانونية لحماية شهود الفساد بشكل فعال و علي ضمان إستقلالية القضاء، فما الفائدة من صلاح نظام سياسي سلطته القضائية فاسدة و سلطته التشريعية أفسد ؟

  2. يقول Brahim:

    من الصعب على تبون فك ارتباطه بالنظام الذي اوصله الى كرسي الحكم خاصة وان اغلبية الشعب لا تعترف بشرعيته لهذا هو سيحتمي بالنظام بدل الشعب

  3. يقول اسامه الاحمدي:

    إذا كان تبون تم تأهيله من 2017 من طرف الجيش حسب الكاتب .و حتما المؤهل يعلم بما سيحل بعد 2017 في هذه الحالة لماذا الجيش و الدولة العميقة وم الطرف المؤهل لتبون لايتجاوز حل آخر اقصر و اسهل يحفظ البلاد و العباد من الانزلاق .هل هو عن قصد ؟ام انها صدفه؟

  4. يقول علوان العربي:

    لقد سبق ان خسر مرشح جبهة التحرير نفسها في 2004 وهو بن فليس في مواجهة مرشح النظام وهو دليل على عدم وجود أحزاب أصلا في الجزائر وانما جماعات تأييد ومساندة وتطبيل لاغير

  5. يقول سامح//الاردن:

    *حياك الله أخ(الصوفي) من الجزائر الأبية
    وبارك الله فيك.

  6. يقول المغربي-المغرب.:

    المشهد برمته يمكن اختزاله في أمرين : شعب يناضل ويطلع إلى غد مختلف تصان فيه كرامته وإرادته وتحفظ فيه ثرواته ومستقبل اولاده. …وعسكر ادمنوا الحكم والتحكم ونهب البلاد والعباد. ..والطاعة العمياء لأمهم فرنسا. ..؛ وتمخض كل ذلك مرحليا عن مسرحية رديئة الإخراج والتمثيل لتنصيب محنط جديد يشكل ضمانة لاستمرار الواقع الكارثي على حاله. ..وهي نتيجة لايجب أن يفرح بها المستفيدون وبيادقهم. …لأن كلمة الشعب هي الحكم في النهاية. ..ولعل العسكر بلغهم خبر الحكم على الديكتاتور وزميلهم برويز مشرف بالإعدام. …

  7. يقول سعد:

    تبون رجل المرحلة و يعي خبايا و سراديب النظام و بإمكانه ترويض المعاكسين و إحراز مكتسبات للشعب و مطالبه التفاؤل يسود مستقبل الرجل و الله يعينه رجل مرحلة بكل إمتياز

  8. يقول عبد المجيد - المغرب:

    من الغريب أن الدولة التي ترفع اللافتات الكبيرة والشعارات البراقة، لا تنفذ أيا من شعاراتها فشعار تقرير المصير للشعوب الذي ترفعه منذ ستين سنة، لا تطبقه حتى في الجزائر وتحرم منه الشعب الجزائري وإلا فما معنى أن ينصب عسكر فرنسا نفسه وصيا على الشعب وكأن هذا الشعب قاصر ومدرسة حضانة فمهزلة الإنتخابات الرئاسية وتنصيب قناع جديد يحكم من خلاله العسكر هذا الشعب المسكين الذي يبدو أن قدره أن يظل تحت ( البوط) العسكري إلى الأبد. والحق، أن الشعب الجزائري سيظل تحت هذا البوط ما دام لا يفهم معنى أن يحاول الرئبس القناع خداعة بشغله بالعنتريات الفارغة والفانتازيا الكاذبة حول قضية فتح الحدود مع المغرب، أو شغله بافتعال الخصومة مع الرئيس ماكرون مع أن الكل يعرف أن كل ما جرى بالجزائر هو برعاية ومباركة فرنسا.

  9. يقول أمين بوفتوحة:

    يا سي توفيق.. ميهوبي لم يكن أبدا مرشح النظام، سمعتها من أذنه قبل انطلاق الحملة وعشت أجواء الحملة قربه،، وتأكد لنا فعلا أنه ليس مرشح النظام مع بدء “تعرية” تبون ثم اتهام أحد أعوان بن فليس بالعمالة للخارج، وبعدها بدأت الزواحف البشرية -بإيعاز طبعا- تزجف نحو ميهوبي معتقدة أن هو مرشح النظام، ثم جاءت الطامة عندما أوعزوا للأـفلان بإعلان المساندة، وهذا لتشويه ميهوبي أمام الرأي العام (وهو ما حدث فعلا) وذلك لإبعاد النظر عن مرشحهم الحقيقي (تبون) .. ثم أزيدك النتائج الحقيقية ليست تلك المعلنة ،، الحقيقة هي شيء آخر، مبروك عليهم

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية