روايتنا الشفوية على وشك النفاد…

حجم الخط
13

بعد سبعة عقود من النكبة، يوشك أواخر أولئك الذين كانوا مراهقين وقادرين على التذكر في عام النكبة الفلسطينية أن ينتهوا. أقصد أولئك الذين يبلغون اليوم أكثر من ثمانين عاما وما زالت ذاكرتهم تسعفهم في تذكر أحداث النكبة، وبرحيل كل واحد منهم ترحل معه أسرار وقصص.
البعض ما زال حيا ولكن تشوّشت ذاكرته، ويخلط بين الأحداث والتواريخ والمناطق.
نحن نتصرف مع النكبة كأمر مفهوم ضمنا، وبأن كارثة بهذا الحجم الذي وقع في فلسطين، لا تحتاج إلى جهد كبير لإثبات وقوعها وتداعياتها وأحداثها، وهذا خطأ وقع فيه أهلنا وما زال ساري المفعول حتى يومنا هذا.
هنالك من يعتقدون بأنه لا يوجد ما يضاف إلى كل ما روي، وأن ما عرفناه يكفي، وأن هذا الماضي لن يضيف شيئا سوى المزيد من الآلام، وهذا مع صحته من ناحية الألم، إلا أن هناك واجباً على كل واحد قادر ويعرف شخصاً امرأة أو رجلا عاش النكبة، وما زال قادراً على التذكر، أن يذهب إليه وأن يحثّه على البوح، وأن يسجّل ويوثّق، لأن كل واحد يرحل من هذا الجيل لا يوجد من يأتي في مكانه أو يحكي قصته مثله هو.
الحقيقة المؤلمة أن ما توثق من أحداث النكبة بسيط جدا، ولا أبالغ إذا قلت إن كل ما نعرفه عن النكبة لا يتعدى واحدا إلى خمسة في المئة مما حدث في الواقع، فلكل واحد وواحدة ممن عاصروا تلك الحقبة روايته ونكبته.
في كل يوم نفقد شاهدا آخر على ما حدث، وخلال سنوات قليلة سيرحل آخرهم.
وبما أننا شعب يعتمد أكثر على الارتجال ولا نسجّل وليس لدينا عادة تسجيل يوميات، فإن الأكثرية الساحقة ممن عاصروا النكبة لم توثق ما حدث.
كذلك فإن معظمهم يظنّ بأن لا فائدة ترجى من هذا، فكثيرا ما حاولتُ استدراج بعضهم بالحديث عن ما جرى معه أو مع أسرته وكان يمتنع، أو أنه يتحدث برؤوس أقلام وعموميات. البعض يخجل من الحديث بوضوح وصراحة عن ضعفه، أو عن ما تعرض له، وكيف بقي في وطنه! والبعض ما زال يخاف من عاقبة حديثه حتى يومنا هذا، فقد جربوا هذا على جلودهم في زمن ما، وهناك من لا يزال يتوقع أن يعاقب إذا ما باح، خصوصا في ما يتعلق بأحداث تتعلق بالجيش وتصرفاته أثناء الاحتلال، أو بعميل ما خدم الاحتلال وممكن أن يسبب له الضرر، وذلك لحساسية الموضوع في مجتمعنا الذي يعرف بعضه بعضاً، وهذا يسبب مشاكل في بعض الأحيان إذا ما ذكر اسم أحدهم كعميل مثلا، فقد كتبت مرة عن عميل أسهم في طرد جدي لوالدتي من بيته عند محاولته العودة إليه، وعن عميل آخر سرق عن رأس والدتي مرآة أخذتها معها من بيتها عندما طردت منه مع أسرتها، ويبدو أن هناك من أوصل لأبنائه ما كتبت، فتوجهوا لأحد أعمامي لائمين ومعاتبين، وطالبين بأن أعتذر، وطبعا لم أفعل.
البعض يرفض الحديث لأن تجربته علّمته أن الحديث في نهاية المطاف لا يفيد شيئا، هكذا فإنك إذا طلبت من معظم المسنين الحديث قالوا: «شو بدو ينفع يعني؟ واللي صار صار، ولا يوجد رادع أمام إسرائيل». ومنهم من كان يعيش على أمل في العودة إلى دياره، ورفض كل صفقات المبادلة بالأرض، أو صفقات البيع، وما زال ينتظر. زرت واحدا من هؤلاء قبل أسابيع قليلة، وهو من قرية إقرث في الجليل الأعلى، فقال إنه بعدما كشف الغطاء عن العفن الذي يعيش فيه العالم العربي يئس وفقد الأمل.
هناك حقائق تجري على الأرض، فالأجيال الصاعدة من اليهود لا تعرف شيئا عن نكبة الشعب الفلسطيني، ولا تعرف مصطلحا مثل «المناطق المحتلة» التي يقصد بها المناطق المحتلة عام 1967، لأنهم يتعلمون في المدارس عكس ما نعرف، ونادرا ما تجد شابا يهوديا يعرف بأنه حتى عام 1967 كان أحد جوانب البحيرة تحت السيطرة السورية.
في الأسابيع الأخيرة أثيرت قضية مسجد البحر في طبريا، إذ تسعى بلديتها لتحويله إلى متحف. كانت الردود عبارة عن دهشة واستغراب، فمعظم أبناء الأجيال الصاعدة لا يعرفون بأن مدينة مثل طبريا كان يسكنها العرب إلى جانب اليهود، وهؤلاء لا يعرفون بأن الجولان أرض محتلة في تعريف القانون الدولي.
الأجيال الصاعدة من اليهود تفهم عكس ما نفهمه تماما، خصوصا في المدن الكبيرة مثل تل أبيب، وعندما تطلق عبارة «الأرض المحتلة» يظنون بأنك تمزح، فهم يلقّنون منذ الطفولة المبكرة عكس ما نعرفه ونتحدث به، فهم مثلا يعتقدون أننا نحن غزاة لأرض إسرائيل، وما تقوم به إسرائيل وحكوماتها في النقب من طرد سكاني واستيلاء على الأرض هو عملية استرداد لأرض سلبها العرب الفوضويون الذين لا يحترمون القوانين، وهم يظنون بأن العرب هم الذين هاجموا إسرائيل عام 1948 وحاولوا الاستيلاء على أرضها.
معظم الشباب اليهود يظنون بأن العرب محتلون، وأن الحروب ضدهم مشروعة، وهي حروب استعادة وتحرير أرض إسرائيل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    أكبر نكبة لنا هي بتوقفنا عن الجهاد لإسترداد حقوقنا! لا يفل الحديد إلا الحديد, وما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول كمال - نيويورك:

    توثيق النكبة بالصوت و الصورة و الكتابة امر مهم للغاية، كذلك إيصال الصورة كاملة وواضحة لكل العالم. لابد من سردها بطريقة احداث تسلسلية و بالأدلة الى إثبات الحق و تنوير الضمير. تماما كما يفعل المحامي الناجح في شرح قضيته الى ان يثبت الحق و البراءة. و قضيتنا من اسهل القضايا اثباتا إذا كانت بأيدي امينة.

  3. يقول سوري:

    ذاكرة فلسطين مهمة وأتمنى شخصيا لو ألتقي بهذا الجيل المعاصر للنكبة لأدون كل ذكرياتهم في كتاب اعطيه عنوان من الذاكرة الفلسطينية لنكبة العرب مع الأسماء والأماكن والأحداث كي تبقى في ذاكرتنا. إن فلسطين هي كريات حمر في دمائنا ولن ننساها

  4. يقول بولنوار قويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة (سي سهيل) وكذا جميع قرّاء ومعلقي القدس وأسرتها الفاضلة
    إنّ الذاكرة التاريخية جزء من هويتنا لا مفر منها وبكل أشكالها سواء المكتوبة أو الشفوية زهي أمانة يجب الحرص عليها وتنشيطها وتفعيلها وإستثمارها وبكل الوسائل وبخاصة اليوم في وحود التكنولوجيا.
    نتفهم من يتردد بالكشف عن بعض الأسرار إمّا خوفا من تبعاتها أو من حد فهمه أنّها لا جدوى منها ولكن حقيقة الأمر هي مسؤولية على عاتق كل من عايش الحدث.هم يسعون لتوثيق مزاعم كاذبة ونحن نخاف من حقائق دامغة فكيف نفسر ذلك إلّا تخلي عن واجب في أعناقنا.دعوة إلى كل من عاش وعايش الأحداث أن يوثقها لتصحيح مفهوم يروج له الصهاينة لمحو تاريخنا المشرق الذي يستجق أن يدس في كل مراحل التدريس لابنائنا عرب ومسلمين…شكرنا لأستاذنا (سهيل كيوان) على هذه التنبيه الذي يعتبر جرس إنذار يقرع به الغافلين ليستيقضوا من سباتهم ويجب بل يلزم على وسائل الإعلام بكل أشكالها أن تفرد مقالات وأفلام وثائقية لتبرز هذا الجانب المهم المنسي وهي أمانة في عنق الكتّاب والفنانين على مختلف مشاربهم..
    فلسطين قضيتها قضية خالدة لا تنسانا ولا ننساها
    تنويه:نتمنى لأخينا (رؤوف بدران الشفاء العاجل إن شاء الله)
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  5. يقول محمد ابو الصغير:

    لا شك ان الرواية الشفوية والشخصية اقوى من الروايات المكتوبة,,ولهل تأثير اقوى على نفسية وتفكير الآخر,,ولذلك وجب علينا ان نبحث عن كل من عاشر النكبة وما زال حيا ان نوثق روايته الشخصية وحفظها للأجيال القادمة ,,وللأسف لم تقم اي مؤسسة فلسطينية كبرى بتوثيق روايتنا وجمعها وانما كانت محاولات فردية تنشط احيانا وتغيب فترات ..واتمنى ان تتبنى وزارة فلسطينية هذا الموضوع وتنشط عالميا في جمع القصص البسيطة والشحصية التي تيني قضية شعب مفصلة .. يا ريت نتعلم القليل كيف حافظ اليهود على روايتهم في المحرقة ,,

  6. يقول رسيله:

    مقاله راقيه جدا تثير فينا الاحساس والشعور بالذاكرة الجمعية التي ترسخ فينا كجماعات تاريخ الوطن المسلوب.
    الفيلسوف وعامل الاجتماع الفرنسي هالبفاكس يقول: :”الذاكرة الجمعيةليست تجربة متمركزة ومنحصرة داخل الفرد، بل إنها تنشأ داخل منظومة اجتماعية تستند إلى تفاعل الفرد مع محيطه الاجتماعي”.
    وهذا يوضح ما ذكره كاتبنا عن تذكر الأجيال الفلسطينية الانية لمحطات تاريخية هامة في تاريخ حياة الشعب والمجتمع، مثل النكبة أو ما قبلها، على الرغم من ان تلك الأجيال لم تعش ذلك الحدث أو غيره ولم يشكل احتكاكا خاصا أو تجربة ملموسة حية في حياتهم، ولكن الذاكرة المشتركة لهذه الجماعة البشرية اشترطت ذلك،حفاظا على هويتها عبر فعل التذكر ، فكان لا بد ان تصبح النكبة جزءا من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني ،تذكره للأجيال اللاحقة باعتباره انعكاسا للهوية المجتمعية وحدثا مفصليا في التاريخ لا يمكن نسيانه. ولكن التساؤل الذي يطرحه استاذ سهيل هو كيف يمكن الحفاظ على تلك الذاكرة من الاندثار؟ بالحقيقة هناك العديد من الوسائل التي تعمل دورا كبيرا في ذلك، بدءا من وسائل الإعلام بما فيها من برامج وأفلام وسرديات ومرورا بالمناهج الدراسية والكتب التي تسرد التاريخ وفقا لبعض السياسات والأهداف المعينة،( هناك تتمه)

  7. يقول رسيله:

    (تكمله)والاهتمام بالمتاحف والذكريات الوطنية والشعبية،لان هنالك سياسة عليا تمارس نفوذها على تلك الذاكرة الجماعية باتجاهين؛ أحدهما من الأسفل إلى الأعلى حيث تؤثر تفسيرات الماضي على هويات النخب السياسية، وكذلك من الأعلى إلى الأسفل لأن تصريحات بعض الشخصيات الفاعلة أو المؤثرة داخل مؤسسات الدول تستطيع أن تصنع من أحداث معينة ذاكرة تشق طريقها إلى وعي الأفراد وعقولهم، بينما تستطيع أيضا أن تسكت أحداثا أخرى وتضمها إلى قائمة النسيان بأساليب عديدة تنطوي أساسا على التلاعب غير الظاهر بعقول الآخرين مما يخضعها لتعقيدات عديدة بسبب تدخل المتحكمين والأقوياء والسياسات المهيمنة، لذلك فغالبا ما يجد الفرد نفسه ضحية لتذكر بعض الأحداث ونسيان بعضها دون إرادة منه . ما يعني ان مواجهة سياسات الذاكرة الجمعية يتطلب وعيا تاما بصيرورة تكون التاريخ ورسم الواقع والمستقبل، وعيا بالتخلص من هيمنة السلطات التي تتحكم بهوياتنا الذاتية والجمعية وتاريخنا وأساطيره، وفقا لأهدافها ومالاتها .

  8. يقول رسيله:

    (تتمه اخيره)انا شخصيا اسعى دائما الى تطوير الذاكرة الجمعية من خلال امور تراثية اقتنيها واعلقها في بيتي كمفتاح العودة او بكوفية فلسطينية ألفها في ايام البرد حول عنقي او لباس تراثي فلسطيني مطرز ارتديه في مناسبات معينة وهذا نوع من إثارة الذاكرة الجمعية التي توقظها وتشعلها الكثير من الأماكن والأزمان واللحظات التي لها عطر لا ينتسى ، ما رأيك استاذ سهيل اليست فكرة لجعل الذاكرة تفترس حواسنا وتحتلها وهي تذكرة لمن قد يسلو او يتناسى ؟! شكرا جزيلا لتقديرك لتلك الذاكرة فقد أصابت حروفك شرفات البوح فتساقطت حروفك ابداعا وشهدا، دائما قلمك يصول ويجول في امور تخدش بحساسية مشاعرنا ، دمت بخير.

  9. يقول فلسطينية سورية من المانيا:

    شكرا الك استاذ سهيل على المقال الرائع والله كانك تقرأ افكاري .امي وابي من مواليد 37 و 39 وعاصروا النكبة ومتذكرين تفاصيلها وتفاصيل الهجوم الصهيوني المتوحش وما جرى في قرى عين غزال وعثليث وجبع والطنطورة ودائما يسرودون علينا قصص التهجير والحرب وقصص المجازر ولكن للاسف لم اسجيل شيء .اسال الله ان يطيل باعمارهم والتقي بهم لاسجل كافة التفاصيل صوتا وصورة .
    شكرا مرة اخرى على المقال الرائع

  10. يقول خليل ابورزق:

    اذكر انني قابلت قبل اربعين سنة يهودي اسرائيلي في بريطانيا عمره نحو 30 سنة و اخبرني انه مهندس ميكانيك و ضابط احتياط و شارك في حرب اكتوبر 1973. المهم انني فوجئت باعتقاده ان اسرائيل كانت دائما موجودة و كانت محتلة من قبل الانجليز و ان اليهود ناضلوا للاستقلال حتى حصلوا عليه في 15 مايو 1948. ثم انهم حرروا بقية البلاد من الاحتلال الاردني… و لا يوجد لدية ادنى فكرة عن اللاجئين الفلسطينيين مثلا

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية