تترك أو لا تترك؟

حجم الخط
4

المقولة التي فتحت سجالا «تويتريا» كبيرا ورد في جزء منها أنه: «لا يتحقق الاستقرار الأسري إلا بوجود أسرة متعلمة تتشارك في حمل المسؤولية، منطق تحقيق الاستقرار الأسري بترك العمل، تخلف، فهناك الكثيرات ممن جلسن في البيت وأسرهن مفككة»، إذ سريعا ما سال لعاب من تعود أن يصطاد في الماء العكر، قص ولصق ولفق وخرج بمعطيات مختلفة تماما عما قيل. تأتي الردود متنوعة بين هجومي وتوفيقي وتصحيحي وتأكيدي وغيرها، كرد إحدى الصديقات «الأمن الأسري مهمة وطنية قصوى، لا نطالب بأن تترك المرأة العمل، ولسنا ضد التوازن، لكننا نتطلع إلى توازن يحقق الأمن الأسري ولا يعبث به».
ثمة شيء أخافني في كل هذا، وهو أن أي تعبير للمرأة عن أمور تخص مكانتها الحقيقية في الأوطان العربية فهناك جيش معادٍ له، وحاضر في كل الأوقات لمحاصرتها وتشويهها قبل إخمادها، أي صوت نسائي يرتفع من مركز مسؤولية، يُشعِر الذكور دائما بخطر ما، وأتساءل لماذا وما السبب الحقيقي وراءه؟ إن كانت المرأة إلى يومنا هذا تحب أباها وأخاها وأبناءها الذكور أكثر من نفسها، فما المخيف في أن تخرج المرأة للعمل وترد لوطنها وأهلها القليل مما قدمه لها، من تعليم وتدريب؟ وإن كانت المدارس والجامعات أوجدت فقط لتخريج زوجات المستقبل؟ فلماذا لا نقبع في بيوتنا ونتعلم أصول الطبخ والنفخ والاهتمام بالأطفال من أمهاتنا وانتهى الأمر؟ هذا إن رضيت أمهاتنا بذلك. إن كانت المرأة يجب أن تكون نسخة متكررة عن والدتها، فيما الرجل يقطع في تطوره مسافات بعيدة عن صورة والده، ويرفع صوته عاليا «لن أعيش في جلباب أبي» فكيف سنجمع بين الاثنين ونؤسس لمجتمع يواكب تطور الزمن؟ عن أي رؤية مستقبلية نتحدث، إن كان التدخل اليوم في حرية خيارات المرأة يربك «أبناء النساء اللواتي أفنين أعمارهن في خدمتهن؟». هل يمكننا بهذا الخطاب المعادي للمرأة، أن نبني مجتمعات متكاملة؟ أم أن أقصى طموحاتنا اليوم هو العودة لفترة «الحريم»؟
لم أر في المقولتين السابقتي الذكر أي شيء يهدد قيمنا، فما المزعج في أن تعمل المرأة وتترك بمحض إرادتها حين تشعر هي بذلك، بدون تَدخل فوقي وخارجي؟
ما المانع من أن تستثمر ما تعلمته في مجال تخصصها مثلها مثل أخيها الرجل؟ أطرح هذه الأسئلة وأنا أعرف أن طبيعة كل مجتمع في عالمنا العربي مختلفة عن الآخر، فأنا أعرف نساء كثيرات يتمنين لو أن أزواجهن متمكنون ماديا ليتفرغن لأولادهن، كما أعرف نساء جرّهن الفقر والعوز للعمل غصبا عنهن، بعد أن عشن مدللات في كنف آباء وأزواج جيدي الموارد، لكن ظروفا قاهرة كالموت والمرض والإفلاس غيرت خريطة أفكارهن وقناعاتهن وخياراتهن، فخرجن للعمل في عمر متأخر، عانين فيه كل أشكال العنصرية فقط لأنهن نساء! إن الردود التي قرأتها خلال متابعتي للآراء المطروحة، جعلتني أشعر بأن الخطاب النسائي غير فاعل بما يكفي، وأن هذه المراحل التي قطعناها بظهور مفكرات في علم الاجتماع والفلسفة وتاريخ الشعوب، باتت من الماضي، وأن النهضة التي حققتها النساء منذ مطلع القرن العشرين، أو لنقل منذ هدى شعراوي إلى فاطمة المرنيسي، قد تكون نهضة وهمية، ما دامت لم تلامس صميم فكر الإنسان العربي، وهذا يعني أن السجال حين يُفتح مجددًا حول أهمية «تعليم المرأة، ومنحها فرصة لإثبات حضورها في المجتمع»، سجال لا بد منه، إذ يبدو جليا أن أي توقف عن استمراريته، يكرس لقطيعة جديدة بين الجنسين في مجتمعاتنا، ثم سرعان ما تتحول تلك القطيعة إلى عدائية لامفهومة، يتزعمها في الغالب دعاة الخط الديني، الذي يحتمي بتراثه القديم، ولا يريد الخروج منه، رغم أن الإنسان وظروفه وأساليب عيشه وتعاطيه مع العالم كلها حقائق ابتعدت زمنيا عما عاشه ابن هذه المنطقة منذ مئات السنين.

لا يمكن لخطاب مبني على التمييز الجندري، أن يمارس عليها ضغطا يدخلها لقفص الاتهام، لتجد نفسها في موضع من يدافع عن نفسه بدل أن تتقدم بمشروعها التوعوي نحو الأمام.

لعل هذا «النكز» الذكوري المتعمد هو الذي يجعل النساء في الشرق يلجأن إلى قول نصف الحقيقة، وإخفاء النصف الآخر لامتصاص غضب غالبية الرجال، فنحن اليوم نعيش ظاهرة جديدة، منحت للجاهل والعارف فرصة مخاطبة النخبة بكبسة زر بشكل متساوٍ، وقد بلغنا هذه المرحلة، قبل أن تؤتي ثورة التعليم ثمارها، إذ لا يكفي أن ننجب جيلا واحدا متعلما أو جيلين لتنتهي أُميتُنا إلى الأبد. فما طمحت إليه أمهاتنا عند تعليمنا كان أكبر من تعلم القراءة والكتابة، كن يدركن بغرائزهن الذكية أن ذلك لا يكفي، وهن من دفعن بنا لتحقيق نجاحات أكبر من الحصول على وظيفة، لقد أردن أن نكون مستقلات، لإدراكهن أن الاستقلال المادي هو الوحيد الذي يضمن استمرار حريتنا، وإن خالفني أحدهم وقال إن المال ليس عصب الحياة، فقد أخطأ، فوحدها المرأة تعرف انتكاسة الذل المادي حين تفاجئها الأقدار بمصيبة غير متوقعة، حينها يخرج الأشرار، كما في الأساطير القديمة، ليزجوا بالسندريلا إلى المطبخ، والباحة الخلفية للبيت، فيما هم يلهون ويمرحون على هواهم.
إن القضية اليوم، قضية كرامة إنسانية، واحترام للآخر من منطلق أن المرأة مواطنة حرة مثلها مثل أي مواطن في البلد، ووفق النصوص التشريعية التي ضمنت لها حقوقها كاملة، لا يمكن لخطاب مبني على التمييز الجندري، أن يمارس عليها ضغطا يدخلها لقفص الاتهام، لتجد نفسها في موضع من يدافع عن نفسه بدل أن تتقدم بمشروعها التوعوي نحو الأمام. أحاول أن أتخيل وفق هذا الطرح صدمة أمي وخيبتها مثلا إن أخبرتها أنني سأتوقف عن العمل، هي التي كانت دوما مدرستي ومعلمتي وصديقتي وعرابتي الروحية، ما حجم خيبتها إن وقفت في وجهها وقلت لها، شكرا لك على ما قدمته لي، لكنني سأتوقف هنا. كيف سأشرح لها استخفافي بتضحياتها وسهر الليالي وقلقها علينا، وقد دربتني كيف أكون أما ثانية لأخوتي؟ أقيس على نفسي وأتساءل ماذا يعرف المنظرون عن حياة كل امرأة عاشت تجربة مختلفة، وهي ما هيأها ووضعها في مكانها الصحيح، وما تلفظت به لم يكن ارتجالا بل مختصر تجربة.
إن ما استخلصته من خلال ما تم طرحه، لم يكن فيه أي استفزاز، بقدر ما كان رؤية لاحتضان المكاسب، وأعتقد أن جلسة قراءة بسيطة لتاريخ مجتمعاتنا، سواء وهي رازحة تحت نير الجهل، أو تحت الوصاية الاستعمارية الغربية سيوقظ الأذهان النائمة وينبهها للنعيم الذي نعيش فيه، بسبب تحقيق التوازن الثقافي والفكري بين أبنائنا، بدون تمييز بين النساء والرجال. وأن النهضة التي نعيشها اليوم خاصة في أغلب الخليج قوامها التعليم للجنسين، والوعي الذي تحقق بسبب الانفتاح على العالم لا بالانغلاق في وجهه، إنها نعمة لا يدركها إلا من يعيش في ظروف حالكة، تلك الظروف التي عاشتها أمهاتنا ولا يردنها أن تتكرر مع بناتهن، ولا مع بنات جنسهن على مدى الأزمنة.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نابليون العربي:

    هذه المرة لن أتفق مع حضرتك..لسبب مباشر، وهو أنّ حضرتك سيدة أخذت فرصتها وشهرتها ، أفضل من آلاف الرجال المتعلمين وحاملي الشهادات ، فكيف يستقيم الكلام ياسيدتي المحترمة ؟ الأهمّ من قضية المرأة والرجل العربيين اليوم : الشباب العرب الذين
    يشكلون أكثر من 60% من عدد السكان..ولا يجدون فرصة للمستقبل فيهربون إلى الخارج ، في نزيف حضاري نادر منذ عصر هولاكو.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري إشكالية سؤال البحرينية (بروين حبيب) وهي التي تقدم نفسها كشاعرة وإعلامية في عنوان (تترك أو لا تترك؟) عن الوظيفة داخل الأسرة (ثقافة النحن كأسرة إنسانية)، وهل تتعارض مع الوظيفة خارج الأسرة (كمهنة لثقافة الأنا أو ثقافة الآخر)،

    ويجب أن يتنازل أحد أطراف الأسرة بالتنازل عن وظيفته خارج الأسرة حسب تصورها، مما تم طرحه تحت العنوان.

    وهذه مشكلة المشاكل لدولة الحداثة لثقافة الأنا أولاً، ومن بعدي الطوفان، التي لا تفهم معنى المسؤولية في أداء أي وظيفة، من الرئيس وحتى الغفير.

    وضرورة أن تكون منتجة، لمنتج ذو عائداً اقتصادياً، وإلا سيفلس الجميع الإنسان والأسرة والشركة المنتجة وبالتالي الدولة، كما أفلس الإتحاد السوفييتي في عام 1992.??
    ??????

  3. يقول awadh:

    وحدها المرأة تعرف انتكاسة الذل المادي حين تفاجئها الأقدار بمصيبة غير متوقعة، حينها يخرج الأشرار، كما في الأساطير القديمة، ليزجوا بالسندريلا إلى المطبخ، والباحة الخلفية للبيت، فيما هم يلهون ويمرحون على هواهم. هذا زبدة الموضوع “الامان ” سواء مادي او معنوي بحرية الاختيار والممارسة ، وكما ذكر في الاثر : ” لو كان الفقر رجلا لقتلته ” .

  4. يقول Khaled:

    يا ست بروين – طرح المشكلة بدون حلول يا ست بروين لماذا؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية