نسيان ما سبق أن تملكتنا جمالية قراءته، هو أحد العوامل المؤثرة في إعادة قراءاتنا للنصوص الإبداعية الكبيرة، سردية كانت أم شعرية، حيث بوسعنا التوقف عند مستويين من مستويات هذا النسيان. يتمثل أولهما في عجزنا التام أو النسبي، عن استعادة الأجواء العام للنص، لحظة إقبالنا على تجديد علاقتنا به، بعد انقضاء زمن طويل على قراءته. أما المستوى الثاني، فيتمثل في الصعوبة التي تعترض سبيلنا، ونحن نحاول عبثا التعرف على الصفحة التي توقفنا عندها، ضمن حيز زمني معين، لاسيما إذا لم نكن معتادين على وضع علامات توفر علينا جهد البحث عن السطر، أو الجملة التي كنا قد توقفنا عندها، حيث يتم الاكتفاء ساعتها بطي تقريبي وتخميني للصفحات التي يحتمل أن تكون القراءة قد شملتها، الشيء الذي يلزمنا بمراجعة عدد غير قليل منها، إلى أن نتعرف بين سطورها على حدث ما، تعبير، أو موقف سبق أن توقفنا عنده لسبب أو لآخر، حينها فقط، سندرك أننا بصدد قراءة ما سبق لنا أن قرأناه، دون أن يحول ذلك بيننا وبين الاستمرار فيها، على ضوء ما تستشعره من متعة إضافية، لا تقل حرارة عن متعة القراءة الأولى، خاصة أننا لم نعد تتذكر منها إلا ذلك النزر القليل، الذي لا يعفينا من التورط في جمالية إعادة القراءة، حيث سنكتشف خلالها أن أغلب ما تمت قراءته من قبل، قد ظل محتفظا بضبابيته وتمنعه عن الاسترجاع، والضبابية هنا لا تفيد الغموض، بقدر ما تفيد حالة من التشوش الذهني المراوح بين الاعتقاد في سابق قراءتنا للفقرات التي نحن بصددها، وتشكيكنا في ذلك.
ويعود مصدر هذا التشوش، إلى تميز خصوصية النص الإبداعي باختلافها الجذري عن خصوصية التلفظات المتمحورة عادة حول أخبار وأحداث مجتمعية أو سياسية، تكتفي فيها الذات بتلقي رسالة مسكوكة، دلاليا ومعجميا، دون أن تكون مطالبة معها بشيء آخر، عدا تمثل مضمونها، ربما من أجل إعادة بثه من جديد، باتجاه متلقين ينتمون إلى الفضاء الخاص أو العام، ذلك أن الرسالة التي نكون معنيين باستيعابها في هذا السياق، سواء كان مضمونها إيجابيا أم سلبيا، غالبا ما تكون مقترنة بمرجعيات مشتركة ومألوفة، بفعل تواتر حيثياتها في مجرى الحياة العامة، فمهما تعددت موضوعات الأخبار وسياقاتها تظل من حيث الجوهر مجرد صياغة متنوعة لخبر واحد، يتجدد ظهوره تبعا لتجدد السياق الوارد فيه، وتبعا لتشابه وقائعه مع أخرى سبق أن سمعنا بها، أو عشنا ملابساتها، بالنظر لاقترانها بيومي، وبمعيش ألفناه وتعودنا عليه، ولعل هذه الألفة الغامرة، المتجاوزة أحيانا لحدود الإشباع، هي التي تؤدي إلى ابتذال الخبر/ الحدث، الذي لا يلبث أن يفقد طراوته وراهنيته، ليتحول إلى مجرد علامة عابرة تندرج ضمن الخانات الضاجة بحزمات من المكونات المشابهة. ولنا في المآسي السياسية التي تلاحق واقعنا العربي دون هوادة، خير مثال على ذلك.
الغاية من توقفنا عند خصوصية الرسائل المتداولة خارج مجال الحقول الجمالية، هي التركيز على المسافة الفاصلة بين التلقي السالب والمحايد للرسائل المألوفة، والباهتة من فرط استنزافها وخلوها من الإثارة، وجمالية الرسائل الواردة في النصوص الإبداعية الكبيرة، التي تدعونا إلى التفاعل الاستثنائي مع ما لم يسبق لنا أن سمعناه أو عايناه.
ذلك أن الحدث، وطمعا في أن يحظى بما تيسر من الاهتمام، يحتاج إلى شحنة مضاعفة من العنف، المفضية إلى أقصى درجات الفجيعة، بدليل أن جميع الاختلالات، والانتكاسات المجتمعية التي عشناها ونعيشها، لا تلبث أن تقع في فخاخ الأحداث والأخبار المألوفة والعادية، إلى حد الابتذال، حيث ليس ثمة ما يدعو «للقلق» والحيرة. كما ليس ثمة ما يدعو إلى المساءلة والتدقيق في دلالة أي شيء يمت بصلة إلى هذا النمط من أنماط الخبر، أو إلى آليات توصيله.
وكما هو واضح، فإن الغاية من توقفنا عند خصوصية الرسائل المتداولة خارج مجال الحقول الجمالية، هي التركيز على المسافة الفاصلة بين التلقي السالب والمحايد للرسائل المألوفة، والباهتة من فرط استنزافها وخلوها من الإثارة، وجمالية الرسائل الواردة في النصوص الإبداعية الكبيرة، التي تدعونا إلى التفاعل الاستثنائي مع ما لم يسبق لنا أن سمعناه أو عايناه، أي مع ما يقع خارج دائرة التذكر، وخارج دائرة الاستعادة الآلية، باعتبار أن جمالية الكتابة تمارس سلطتها، انطلاقا من إثارتها القوية لقابلية الكائن على الانخطاف، والاستسلام الإرادي لنداءات إشارات تشع أضواؤها من داخل سجف المرئي، علما بأن الانخطاف في هذا السياق، هو بمثابة الترجمة الأمينة لأحد أهم الحالات الشعورية المصاحبة للقراءة، التي يتحقق من خلالها تفاعل الكائن مع كتابات حافلة بالأسرار الجوهرية، المحتجبة خلف دوامات المألوف والمعتاد، والتي تنعكس على رمزية مراياها تلك التفاصيل التي تهتدي بها الذات إلى هويتها العميقة. وهي إشارات تشل نسبيا حركية الذاكرة. باعتبار أنها غير موجهة، لما سبق التعرف عليه، فضلا عن كون علاقة الذات المنخطفة بالعالم، مطبوعة بقانون التجدد، الذي يجعل الكائن باستمرار منجذبا لحالات الكشف، التي تتسع من خلالها حدود الرؤية ومجالاتها.
تلك هي الكتابة.. حريصة أبدا على أن تستمد طاقتها، من كيمياء المتخيل، ذاك الذي لا يمكن استرجاع ما ينتجه من عوالم، إلا ضمن ما يتخلله، بما يضفي عليه غرابته الخاصة، والمؤثرة في تصعيد حالة الانخطاف، التي لا تسمح لك بتذكر مكونات العوالم ذاتها.
وبصرف النظر عن التفاصيل اللانهائية المساهمة في خلق هذه الكيمياء، وفي بلورة عواملها المؤدية إلى بسط سديم النسيان على مرايا الذاكرة، فإنها تظل بمثابة الآليات المركزية التي تمارس بها الكتابة غوايتها على القراءة، كي تنصهر كلية في أصوات النص. ما يحول بينها وبين إمكانية رسمها لحدود العودة، حيث ليس هناك من خط واضح ينبغي اقتفاؤه. وما من شيء ثمة، سوى صدى نداءات شبيهة بهسيس تقشير لحاء الهواء، تسود معها حالة الاستغراق العميق، الذي تنمحي معه كل العلامات المعنية بالإشارة إلى خبر ما.
ثم، ما الذي بوسعك تذكره؟ وأنت في قلب تلك الطاحونة الفولاذية، المجلجلة في صدور الطغاة، أو أنت مستسلم لتطوافك حول نافورة خساراتك، مصغيا إلى نبض آخر قلب إنساني في برية الرحمن، وأيضا، حيث لا علم لك بك حتى.
في عمق هذه الفضاءات تحديدا، يختفي الأثر الذي تعودت القراءة التقليدية على الاهتداء به إلى ملاذاتها، كي ينتصب طيف قراءة ثانية، وثالثة، تدعوك لأن تشرع من جديد في إعادة قراءة ما انتهيت للتو من قراءته، على قاعدة نسيانه، باعتبار أن ديناميته تتشكل خارج دينامية القوانين، التي تستند إليها الذاكرة في الحفاظ على مكوناتها، بما هي مادة شبه معلبة، معلنة وخالية من خاصية الإدهاش والإثارة. فبفضل قاعدة النسيان، تمارس النصوص انفلاتها من سكونية الاسترجاع البارد، إلى دينامية قراءة مغتبطة بما جددت لقاءها به، عبر مسالك وأصوات، حريصة أبدا على تقطير دلالتها.
شاعر وكاتب من المغرب