تجربة الزيت باللبن التركي

في ندوة عقدت بشتوتغارت الالمانية قبل ما يقرب الشهر احياءا للذكرى الخامسة والستين للنكبة شبهت احدى المتدخلات ما يحصل من انقسام حاد في الموقف العربي حيال الازمة السورية بين المناصرين للنظام بداعي الحرص على المقاومة والمعادين له وقوفا مع الحرية وحقوق الانسان بالزيت واللبن اللذين ‘ما بيضبطو مع بعض’.
مثل ذلك التشبيه الساخر له خارج المثال السوري اكثر من وجه. اقربها اليوم و في خضم موجة الاحتجاجات التي انطلقت من ميدان تقسيم ما اصبح يعرف بالنموذج التركي في الموائمة بين الاسلام والديمقراطية.
ما ينبغي التاكيد عليه هنا هو ان كرة الثلج التي اطلقتها تلك الاحتجاجات غير المسبوقة عجلت بطرح نقاط استفهام عديدة حول قدرة ذلك النموذج على الصمود والاستمرار وعلى ان يكون منوالا صالحا للاقتداء في دول بدات للتو بشق طريقها نحو انتقال ديمقراطي مؤلم و صعب تحف به الكثير من المخاطر والشكوك. وفي بلد مثل تونس التى اختتم منها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان جولته المغاربية الاخيرة كان لافتا تحول التجربة التركية التي طالما نظر اليها باعجاب شديد حتى طر ف الخصوم التقليديين للحركة الاسلامية الى ما يشبه الوقود الاضافي للحرب الاعلامية والسياسية المستعرة بين انصار حركة النهضة ومناوئيها.
ما يجلب الانتباه في كل ذلك ليس مجرد الانحياز الاعمى لمثل ذلك النموذج او الانكار القطعي لنجاحاته بل ابداء ملاحظتين اثنين:
الاولى هي ان حزب العدالة والتنمية التركي الذي نشا بعد مراجعات فكرية وتنظيمية عميقة تمت صلب حزب الفضيلة الاسلامي برئاسة نجم الدين اربكان لم يحاول منذ وصوله للسلطةفي 2002 ان يتنكر للمنظومة العلمانية او يخترق القواعد التي تحكم سيرالديمقراطية التركية رغم الاتهامات التي ظلت تلاحقه بكونه يمتلك خطة سرية لاسلمة الدولة. ومثل ذلك الامر يدفع الان بالكثيرين في تونس الى التساؤل عن فرص حزب حركة النهضة الذي لا يملك سوى تجربة قصيرة نسبيا في الحكم واجهتها انتقادات حادة لضعف الاداء في تسويق نفسه كحزب وسطي قادر على الدفاع عن مرجعيته الاسلامية مع القبول بما يصفه قسم واسع من النخب التونسية بالنمط المجتمعي للبلد خصوصا امام ما يبديه هؤلاء من قلق متزايد من نوايا الحزب قبل افعاله.
ان تاكيدات الشيخ راشد الغنوشي قبل ايام بمناسبة مرور 32 عاما على تاسيس الحركة على ان لا تعارض بين الاسلام والحداثة ليست الاولى من نوعها اذ سبقتها الكثير من التوافقات التي حصلت داخل الائتلاف الحاكم او تحت قبة المجلس التاسيسي عند صياغة مشروع الدستور الجديد و كانت نتيجة مباشرة لتنازلات مؤلمة كما راها بعض انصار الحزب لم تقابل في الجانب الاخر سوى بحذر مضاعف مما اعتبر في كل الاحوال مناورة للالتفاف على الديمقراطية ووادها في الوقت المناسب.
وعلى عكس تركيا العلمانية فان هناك اجماعا واسعا داخل تونس على ان الاسلام هو دين الدولة وهذا ما دفع مختلف التيارات السياسية للقبول بالحفاظ صلب الدستور المقبل على الفصل الاول من دستور 1959 الذي ينص صراحة على ذلك. غير ان المفارقة العجيبة هنا هي ان هناك نوعا من الحساسية المفرطة التي يبديها البعض حتى من مجرد ذكر كلمة اسلام على اعتبار انه بامكان الماسكين بالسلطة والمقصود بهم الاسلاميون اساسا تاويلها وتطويعها قصد ارساء نظام فاشي بغطاء ديني. ومثل تلك المخاوف قد لا تختلف كثيرا عما يبديه خصوم حزب العدالة والتنمية من ريبة وتوجس شديدين تجاه فهمه وقرائته للعلمانية التي يتفق الجميع حولها في تركيا.
اما الملاحظة الثانية فتتعلق بلعبة التوازنات الدولية التي تجعل من مجرد التفكير بالخروج من فلك المنظومة الثقافية والفكرية للمستعمر الفرنسي السابق مسالة على قدر عال من الدقة والوعورة. اذ ان ما يثير باريس التي لا تزال تنظر بتحفظ شديد الى وجود الاسلاميين على راس السلطة في تونس ليس فقط مجرد التوسع المطرد في المبادلات التجارية بين التونسيين والاتراك او المساعدات الاقتصادية التي تقدمها انقرة بقدرما هو تلك المضامين الحضارية والثقافية التي قد تستبطن من وراء كل ذلك والتي يمكن ان تمس بمرور الوقت من الهيمنة الصارمة التي تفرضها على بلد لم يخرج بعد من دائرة نفوذها الفرنكفوني.
ان قرار وزارة التربية التونسية قبل اكثر من عام من الان بالشروع في تجربة محدودة لتعليم اللغة التركية في بعض مدارس العاصمة اثار الكثير من الانتقادات وحتى استيراد كميات من الحليب التركي لم يمر دون ان تقابله ضجة حول الجدوى من الصفقة عكس الحليب السلوفيني الذي تم توريده في نفس المدة ولم يحدث ردات فعل مماثلة.وتبدو الان مسارعة عدة وسائل اعلام محلية منذ اليوم الثاني لاحداث ساحة تقسيم للتبشير بربيع تركي او حتى عقد مقارنات بين اردوغان وبن علي مثيرة لقدر من الريبة خصوصا امام صمتها التام عن تغطية الاحتجاجات التي تمت قبل ذلك بايام قليلة في ستوكهولم وعدة مدن سويدية وحتى اوروبية في تواريخ سابقة.
استمرار اردوغان وحزبه في الحكم او سقوطه وخروجه من السلطة بفعل استمرار الضغوط امر يقرره الاتراك لكن الاهم من كل ذلك هوان نتخلص نحن في تونس وباقي الدول العربية الاخرى وفي اقصر الاوقات من تلك الثنائيات المقيتة التي حكمت علينا بالاصطفاف حسب الانتماء في خندقين اثنين اما مع و اما ضد.
ومتى امكننا ذلك فسوف يصبح الحديث عن ان الزيت واللبن ‘ما بيضبطو مع بعض’ كغيره من الاحاديث الاخرى الكثيرة التي دخلت التاريخ لمجرد ان تستقر فيه والى غير رجعة.

كاتب صحفي من تونس
[email protected]

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية