لندن: نظّم غاليري The Room بتوتنهام معرضًا شخصيًا للفنان صادق طعمة، وقد ضمّ المعرض، الذي انضوى تحت عنوان «تجريد غير معنون» 16 لوحة موحّدة حجمًا وموضوعًا، فكل اللوحات بقياس 20 x 20 سم نفذّها الفنان بالأكريلك على ورق مقوّى. قد تبدو هذه اللوحات الست عشرة مختلفة للوهلة الأولى عن تجاربه السابقة، لكن المتأمل لمشروع صادق طعمة الفني سيكتشف على عجل أنّ هذا المعرض لم يُشكِّل قطيعة مع مَعارضه السابقة، وإنما هو ضرب من التنويع على تيارات فنية سبق إن اشتغل عليها مثل، التشخيصية والتجريدية والتعبيرية التجريدية، التي تقترن بأسماء كثيرة، أبرزها هانس هوفمان وجاكسون بولوك وفاسيلي كاندينسكي وغيرهم من الفنانين الذين انهمكوا بالعمل في المناطق الرمادية المتاخمة للمدارس الفنية الحديثة، في محاولة جديّة للابتعاد عن الواقع وتشخيصاته الانطباعية، لأن الفنان المبدع يسعى بشكل محموم لأن يُعبّر عن مشاعره الداخلية العميقة، ويكشف عن رؤيته الجمالية للعالم الذي يحيط به من الجهات الأربع.
ولكي نكون أكثر دِقّة لابد من القول بأن لوحات هذا المعرض برمتها ليست جديدة، وإنما تعود إلى عامي 2004 و 2005 أنجزها الفنان حينما كان منهمكًا في الدراسة في جامعة ميدلسيكس للفنون الجميلة بغية الحصول على درجة الماجستير، ومثل سائر الجامعات والمعاهد الفنية التي يقتضي فيها النجاح مشروع تخرّج يُعبر عن رؤية الطالب الذي يسعى لتحقيق بصمته الفنية، التي تُحيل إليه، ولا تومئ إلى أي فنان آخر مهما كانت مرجعيته أو سطوته الفنية في المشهد التشكيلي العالمي، كانت هذه اللوحات هي مشروع تخرّج الفنان صادق طعمة، التي رسّخ بواسطها توجهاته الفنية الحديثة، التي تغادر إلى حدٍ كبير التشخيص والانطباع والحياة الصامتة.
المبدع يسعى بشكل محموم لأن يُعبّر عن مشاعره الداخلية العميقة، ويكشف عن رؤيته الجمالية للعالم الذي يحيط به من الجهات الأربع.
يمكن قراءة هذا المعرض على شكل كتاب بصري شديد التكثيف تمثّل فيه كل لوحة فصلاً من فصول الكتاب الذي يمتحّ مواده الأولية من فعليّ الاستذكار والاستشراف، ليخلق واقعًا تجريديًا جديدًا على السطح التصويري الذي يراهن على التجليات اللونية ولا يعوّل كثيرًا على الثيمات التي اختزلها بموضوع واحد غير معنون ألحقهُ بالشكل التجريدي، وكأنه يوحي لنا من طرف غير خفيّ بأن جهوده الفنية منصبّة على الشكل أو المبنى، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالمضمون أو المعنى المُتاح لكل المشتغلين في حقل الفن التشكيلي.
قبل أن نتوقف عند هذه الأشكال التجريدية دعونا نستأنس برأي الشاعر الإنكليزي أنتوني هاول، صاحب الغاليري الذي دوّن وجهة نظره بالأعمال الفنية المعروضة وقال: «مثلما بدأ موندريان بالتجريد من شجرة، ففي هذه الأعمال الصغيرة القوية التي أنجزها طُعمة يمكن أن تكون هناك حقيقة مادية – شجرة، نهرًا، برجًا سكنيًا- ربما، لكن في الوقت نفسه لديها ببساطة حضور في حد ذاته، كصياغات مادية قوية في الرسم، مليئة بالألوان والطاقة». ومثلما ينطلق الحلم من نتوء واقعي كذلك ينبثق التجريد من تكوينات مادية مألوفة للمتلقي العادي لكن شطحات الفنان تأخذنا إلى فضاءات جديدة تنطوي على أشياء ومعطيات غريبة ومدهشة، تهدف إلى إبهار المُشاهد وهذا هو سرّ اللعبة الفنية. فهذه اللوحات المتشابهة حجمًا تفتح لنا آفاقًا جديدة مختلفة تتيح لنا السياحة والترحال في عوالمها اللانهائية، وكأن الفنان يهدف إلى سحب هذه الأطر من الزوايا الأربع لتغطّي أبعد مساحة ممكنة تستطيع أن تلّمها الباصرة البشرية.
يُفرط صادق طعمة في استعمال أكبر عدد ممكن من الألوان الصريحة والمُخففة في بعض لوحاته، وكأنه يراهن على بريقها المتناسق، ويدوزن سطوعها في مدارات النص البصري الذي لا يسرد قصصًا واضحة، وإنما يكتفي بأشباه الحكايات التي تُحيلك إلى شيء ما وتجعلك تتلقى الومضات الفنية التي وزّعها المؤلف- الرسّام على لوحات مشروعه الفني، الذي يمكن اعتباره مجموعة بصرية تضمّ بين دفتيها ست عشرة قصيدة قصيرة وامضة تحتفي بسطوع الألوان الحارّة، ووهجها المُرهف الذي لا تلتقطه إلاّ الأعين الخبيرة الحساسة. وفي المقابل هناك تقشّف لوني قد يصل إلى ثلاثة أو أربعة ألوان رئيسة باردة في الأغلب، لكنها تستوفي شرطها الفني، خاصة في اللوحات التي يهيمن عليها البنفسجي والأصفر والأزرق والرمادي بدرجاته المتفاوتة. ثمة لوحات شديدة الأهمية لجهة استعمال الفنان للون الذهبي بضربات فرشاة سريعة، لكنها متقنة وتأتي غالبًا في منتصف اللوحة أو مركز توازنها الأفقي أو العمودي، وكأنها تؤدي مهمة الترصّيع أو التشذّير اللوني المتشابك الذي يتعشّق بتقنية مدروسة يجيدها صادق طعمة الموالي كثيرًا للتجريد وللتعبيرية التجريدية، التي تستنطق أعماق الفنان وهواجسه المُلحّة التي تترجم موضوعات تبدو عصية على الترجمة، لكنها قابلة للتأويل النثري الذي يجنح إلى الإفاضة والإسهاب.
تُحيل غالبية هذه اللوحات إلى مرجعية أوروبية في الثيمات المجردة التي تسرد أشباه حكايات مُضببة، ولعل وجود الفنان لسنوات طوالا في لندن هو الذي رسّخ في ذاكرته الشخصية منجمًا من الصور والعلامات الغربية التي تظهر على شكل أبواب ونوافذ وبيوت وجسور وعمارات، تتلامع في أفق اللوحة ولا تسيطر عليها تمامًا لأنه لا يعتد بها أصلاً، ولكنه يستثمرها لخدمة خطابة البصري ذي المرجعيات المتعددة العربية والإسلامية والأوروبية على حد سواء.
ثمة لوحات قليلة لم تنجح في طمس ذاكرة الفنان الشرقية، التي تنبثق في لوحاته مثل الأحلام المتداعية التي تفاجئه على حين غرة.
ثمة لوحات قليلة لم تنجح في طمس ذاكرة الفنان الشرقية، التي تنبثق في لوحاته مثل الأحلام المتداعية التي تفاجئه على حين غرة، فتظهر الأشكال الهندسية المثلثة تحديدًا وكأنها ذات الأشكال التي نراها في البُسُط والسجّاجيد الشرقية بلمستها الشعبية المتعارف عليها، ولعلها قريبة من تقنيات الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد مع احتفاظ صادق طعمة ببصمته الفنية التي كرّسها عبر أربعة عقود زمنية، غير أن هذه اللوحة ماكرة، لأنها تجمع بين مرجعيتين أو أكثر فبعض المثلثات المقلوبة يوحي بالأسقف القرميدية الأوروبية، في ما تذهب التكوينات الأخرى إلى مرجعيات إسلامية لم يستطع الفنان أن يمحوها من الذاكرة رغم تقادم الأعوام. ثمة لوحة تُذكِّرنا تقنيتها اللونية بأسلوب مارك روثكو وبول كلي اللذين يركزان كثيرًا على المنحى التقليلي للفكرة التي تقوم عليها اللوحة الأمر الذي يوفر في نهاية المطاف عملاً فنيًا مُقتصدًا في عناصره وتكويناته الرئيسة التي تُريح المتلقي ولا تجعله يتخبط في غابة من الموضوعات المتداخلة، التي تُشعره بالعجز والنكوص والتراجع أمام عمل فني يُفترض أن يستمتع به المُشاهد ويجد ضالته فيه لا أن يهرب منه ويفرّ من صعوباته العصيّة على التأويل.
جدير ذكره أن صادق طعمة هو فنان عراقي يحمل الجنسية البريطانية، وحاصل على دبلوم من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1974، كما نال شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من جامعة ميدلسيكس عام 2005. عمل صادق إثر تخرجه في معهد الفنون كرسّام ومصمم للملصقات الخاصة في المتحف العراقي. شارك في العديد من المعارض الشخصية في لندن وأسكتلندا وفرنسا والدنمارك وألمانيا والشارقة وجدّة وجزر المالديف. أما معرضة الشخصي المقبل فسوف يكون في إيطاليا في يونيو/ حزيران 2019.
جميلة هايالنقدمات التي تتيح لنا معرفة قريبة بفنانين عراقيين تناولوا بعض من زوايا مدينة الضباب شكرا لك استاذ عدنان كانت رحلة معرفية جميلة