ها أن دوائر الغرب الاستعمارية والاستخباراتية تنجح من جديد في مهزلة التلاعب بالألفاظ التي برعت فيها عبر القرون. فهي تصف رد الفعل الفلسطيني تجاه عقود من الإذلال والحصار، وسرقة الأرض وما عليها، وتهجير ملايين الفلسطينيين خارج أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم… تصف ذلك باعتداء إرهابي ضد مدنيين عزل.
فهل حقاً أن الجيوش الجرارة من الذين جاءت بهم الحركة الصهيونية العالمية، بمباركة ومعاونة مالية وتسليحية من بعض دول الغرب الاستعماري، يقتحمون البيت الفلسطيني ويقيمون المستعمرات المدججة بالسلاح، يحاصرون، مثلا، غزة سنة بعد سنة، ويمنعون عن أهل البيت الماء والغذاء والدواء والكهرباء متى شاؤوا وكيفما شاؤوا، ويمنعون التعليم عن أولاد البيت، أحياناً كعقاب وأحياناً كنكاية، ويأخذون الأرض الزراعية المحيطة بغزة ويحرثونها والبنادق فوق أكتافهم، أو يستعبدون أهل غزة ليقوموا بحرث أرضهم كعبيد مطأطئي الرؤوس من أجل لقمة عيش مذلة… هل هؤلاء حقاً يمكن وصفهم، زوراً وبهتاناً، وكذباً ونفاقاً، وتلاعباً حقيراً بالألفاظ، بأنهم مدنيّون عزّل؟
ليس المستوطنون المحيطون بغزة مدنيين، إنهم جزء من جيوش المرتزقة الذين عبثوا بفلسطين منذ عشرات السنين
ومن يقود تلك الحملة الجائرة ويجيش كل القوى الإعلامية الصهيونية وأنصارها من الانتهازيين لطمس الحقائق، لجعل المجرم القاتل ضحية والضحية المتهالكة هي المجرم؟ إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي يعطي دستورها الحق لصاحب كل بيت أن لا يسمح لأي متطفل حتى بالمرور في أرض بيته أو أو أملاكه، بل والحق في أن يحذره مرة واحدة، فإذا لم يستجب ويخرج من أرضه يطلق عليه النار من بندقيته ويرديه قتيلاً. هناك يعتبرون الدفاع عن ملكية صغيرة في شكل بيت أو مزرعة وقتل حتى من يجرؤ على أن يدخلها بالغلط هو حق دستوري مشروع، وهنا في فلسطين يعتبرون مقاومة سرقة وطن بكامله إرهاباً ضد مدنيّين.
ولكن هل هناك غرابة في ذلك؟ ألم يعتبر المجتمع الأمريكي في ما مضى راعي البقر الكاوبوي، الذي يذهب إلى الغرب الأمريكي، ويخرج الهندي الأحمر من أرضه تحت تهديد السلاح بطلاً مغواراً؟ بل ويعتبر قادة ذلك المجتمع أن ذلك ما هو إلا استجابة لأوامر المسيح بتطهير أمركيا من الهنود الكفار ليحل محلهم المؤمنون الغزاة الأنكلو سكسون؟ ألم تتهم الهندي الأحمر بالإجرام والتوحش والإرهاب، إذا تجرأ ودافع عن أرضه وعرضه؟ والأمر نفسه ينطبق على ما فعله المستعمرون المستوطنون الفرنسيون في المغرب العربي.. فدفاع أصحاب البلاد كان يعتبر اعتداءً على مدنيين مسالمين (حتى ولو كانوا مدججين بالسلاح ومن القتلة وحثالات الأرض). والأمر نفسه فعله الاستعمار الإنكليزي في الهند: يسرق وينهب ويذل، حتى إذا ما تجرأ غاندي على المقاومة اعتبر إرهابياً في ثوب رجل كاهن. والواقع أن هذا العالم، وعلى الأخص العرب والمسلمين، قد ملّ وهو يرى الغرب الاستعماري يتعامل معه كما تتعامل بائعة الهوى مع محيطها. فأمام مرآتها أنواع من المكياجات. فإن أرادت الذهاب إلى حانة لتغوي وضعت مكياجاً معيناً. وإن أرادت أن تتظاهر بامتلاكها العفة وتذهب يوم الأحد للكنيسة وضعت مكياجاً آخر. وهكذا هناك مكياج أمام مرآتها لألف موقف. لا يوجد خجل ولا ضمير ولا قيم. هناك فقط لذة الإغواء والابتزاز والنفاق.
والآن، ونحن نرى رئيس دولة مخرّف، ورئيس وزراء دولة لم يقرأ تاريخ البلاد التي جاء منها حتى يبقى انتهازياً مقبولاً في البلاد التي هاجر إليها، ورئيس دولة لا تهمه حتى مشاعر الملايين ممن أصولهم مغربية إسلامية، نرى هؤلاء يذهبون ليقبّلوا وجنة المجرم ويذرفوا دموع الكذب والنفاق ويتحسروا على موت من يدعون بأنهم من المدنيين العزل من المستوطنين السارقين لأرض غيرهم، الحاملين لأفتك الأسلحة، المذلين لكل ذرة في الفلسطينيين… يتحسرون على أولئك، ولكنهم لا يذكرون ولا بكلمة تعاطف واحدة الضحية الحقيقية، ولا يرف لهم جفن لبكاء ما بقي من نتف جثث أطفال غزة.
لا، ليس كل المستوطنين المحيطون بغزة، مدنيين، إنهم جزء من جيوش المرتزقة الذين عبثوا بفلسطين منذ عشرات السنين. وإذا كنتم، يا رؤساء الغرب، لا تعرفون الفرق بين المدني المسالم والمستوطن المعتدي فارجعوا إلى مفكريكم عبر تاريخكم الطويل. ولكن لا ترجعوا إلى أمثال مكيافيلي، بل إقرأو ما كتبه أمثال برتراند رسل وشومسكي وغيرهم من أحرار الغرب غير الاستعماري، بمن فيهم الكثير من الأحرار اليهود الرائعين. يوجع قلبنا أن نتحدث هكذا عن ثقافة غربية رائعة، تعلمنا منها الكثير. لكن بعضاً من ساسة الغرب دمروا تلك الصورة وشوهوا صورة ذلك الغرب الجميل، وقلبوه إلى غرب قبيح انتهازي صهيوني حتى النخاع.
كاتب بحريني