يمكننا القول إن سوق الطاقة العالمي يعد الأسرع والأكثر تأثرا بالأزمات السياسية، فحتى الإشاعات أو التسريبات يمكنها ان تصيب هذا السوق بهزات كبيرة. في تطورات الأزمة الأوكرانية يبدو أن روسيا تكرر سيناريو شباط/فبراير 2014 عندما ابتلعت شبه جزيرة القرم بعد إجراء استفتاء شعبي فيها وكانت النتيجة لصالح ضم شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي، الغرب فرض عقوبات اقتصادية على موسكو نتيجة هذه الخطوة، وبقي إقليم دونباس شرق أوكرانيا منطقة نزاع بين الانفصاليين الروس وحكومة كييف، اليوم تم إعادة السيناريو عبر الاعتراف باستقلال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك كخطوة أولى، تبعها هجوم عسكري روسي على الأراضي الأوكرانية، والنتيجة أصبح موضوع فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو أمرا حتميا.
منذ بداية الأزمة الأوكرانية الأخيرة والعالم ينظر بقلق إلى مؤشرات سوق الطاقة، إذ يمثل الغاز الروسي ثلث استيرادات أوروبا من الغاز، كما يمثل برميل النفط الروسي واحدا من عشرة براميل تصدر في سوق البترول العالمي. ومع ذلك جاء الرد الغربي على التصعيد الروسي الأخير سريعا، إذ أوقفت ألمانيا عملية التصديق على خط أنابيب «نورد ستريم 2» بعد قرار الرئيس فلاديمير بوتين إرسال قوات عسكرية إلى المقاطعتين الانفصاليتين، وقال المستشار الألماني أولاف شولتز، في اتصال هاتفي مع بوتين «لا يمكن أن يحدث أي اعتماد لخط الأنابيب في الوقت الحالي». كما صرح للصحافيين في برلين قائلا إنه «لا يمكن تشغيل خط أنابيب الغاز من روسيا إلى ألمانيا» وحذّر شولتز روسيا من «عقوبات إضافية محتملة».
«نورد ستريم 2» هو خط عملاق يوصل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق ومنها إلى غرب أوروبا، وقد بلغت كلفة إنشاء الخط 11 مليار دولار، تكفلت شركة غازبروم الروسية بنصف التكاليف بينما اشتركت 5 شركات أوروبية بينها شل الهولندية و OMV النمساوية، بتحمل النصف الآخر من قيمة المشروع. وقد انتهت مرحلة البناء في ايلول/سبتمبر 2021 إلا أنه لم يدشن حتى الآن.
مصدرو الغاز العرب
إن غياب الغاز الروسي يعني شتاءً قارصا بالنسبة لأوروبا وارتفاعا في أسعار الكهرباء، لذلك ومنذ بداية تداعيات الأزمة الأوكرانية تم بحث إيجاد بدائل للغاز الروسي، وقد اتجهت الأنظار إلى منطقة الشرق الأوسط، وفيها مصدرون عرب كبار للغاز، يقف في مقدمتهم قطر وبالدرجة الثانية الجزائر ثم مصر.
الدور القطري كان مركز اهتمام أوروبا وأمريكا، والتساؤل عن قدرة قطر على تعويض الغاز الروسي كان محور الدراسات والمؤتمرات، حتى إن هذه النقطة كانت محور اللقاء الذي تم في العاصمة واشنطن في 31 كانون الثاني/يناير بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد والرئيس الأمريكي جو بايدن الذي طلب أن «تكون قطر على أهبة الاستعداد لتزويد دول أوروبا بالغاز الطبيعي المسال، في حال استخدمت موسكو صادراتها من الغاز كورقة ضغط على أوروبا لتتراجع عن العقوبات في حال تم تطبيقها إذا قررت روسيا اجتياح أوكرانيا».
لكن يبدو أن قطر حاليا قد وصلت إلى حدها الأقصى في إنتاج الغاز، وبالتالي لن تستطيع سد النقص الأوروبي إذا توقف الغاز الروسي إلا في حدود ضيقة وبعد الاتفاق مع زبائن الغاز القطري في آسيا وأفريقيا. وقد صرحت مصادر رسمية قطرية بالقول إن قطر لن تتمكن بمفردها من تلبية جميع احتياجات الاتحاد الأوروبي من الغاز في حال حدوث نقص بسبب الأزمة الأوكرانية. وأكد وزير الطاقة القطري سعد الكعبي أن بلاده لا تستطيع مساعدة أوروبا بمفردها إذا أوقفت روسيا إمدادات الغاز مع تصاعد التوترات بشأن أوكرانيا.
مع ارتفاع أسعار الغاز العالمية على خلفية الأزمة الأوكرانية، عقدت قمة الغاز في العاصمة القطرية الدوحة يوم الثلاثاء 22 شباط/فبراير الجاري، وحسب كلمة الشيخ تميم بن حمد في افتتاح القمة، أكد على «سعي منتدى الدول المصدرة للغاز، إلى بناء آلية لحوار أكثر جدوى بين منتجي الغاز ومستهلكيه من أجل استقرار وأمن العرض والطلب في أسواق الغاز الطبيعي العالمية» مع الإشارة إلى إن قطر تسعى لزيادة إنتاجها من الغاز من 77 مليون طن إلى 128 مليون طن بحلول العام 2027.
أما الجزائر التي اتجهت لها أنظار أوروبا باعتبارها مصدرا بديلا للغاز الروسي وبشكل خاص لدول جنوب أوروبا، فأننا نقرأ في تحليل لوكالة «بلومبرغ» الأمريكية للدراسات الاستراتيجية أن الجزائر في مقدمة البدائل المطروحة، باعتبارها مورد غاز رئيسيا لكل من إيطاليا وإسبانيا، وهي ثالث أكبر مصدر للغاز للاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج، وهذا الأمر يعني أنها يمكن أن تكون وسيلة للتخفيف من حدة تأثير أي اضطراب محتمل في إمدادات الغاز الروسي.
لكن رغم أن هذا الخيار يمكن أن يوفر للجزائر عائدات كبيرة تساعدها على مواجهة العجز المالي ويمنحها نفوذا دبلوماسيا في أوروبا، لكنه يمكن أن يؤثر سلبيا على علاقاتها مع حليفتها التقليدية روسيا، إذ أن هذا البلد المغاربي يعتمد بشكل رئيسي على توريدات السلاح الروسي، فقد ضاعفت روسيا مؤخرا صادراتها من السلاح للجزائر، وحافظت على وضعها كأول مزود للجيش الجزائري الذي يُخصص له سنويا ما يناهز 10 مليارات دولار، كما ان الجزائر بدورها تعتمد بشكل كبير على توريدات القمح الروسي، مما يعني صعوبة اتخاذها لموقف يعارض روسيا.
من جانب آخر أشار بعض خبراء الطاقة إلى أن أزمة نقص إمدادات الغاز الروسي لأوروبا نتيجة الأزمة الأوكرانية يمثل «فرصة لوضع مصر على خريطة الطاقة الأوروبية» عبر تأمين جانب من إمدادات الغاز للسوق الأوروبي، لكن يجب الأخذ بنظر الاعتبار، أن «كميات الغاز المصدرة من محطتي دمياط وأدكو من الصعب زيادتها حاليا» خاصة بعد اتفاق القاهرة الأخير، الذي نص على تحويل كميات من الغاز إلى لبنان عبر «خط الغاز العربي» الذي يمتد من الأردن إلى سوريا ثم لبنان. بالإضافة إلى سعي مصر المحموم لتطوير علاقاتها بروسيا التي ترتبط معها باتفاقات استراتيجية بينها قيام مصر باستيراد 50 في المئة من احتياجات القمح من روسيا.
العرب وارتفاع أسعار البترول
ارتفعت أسعار النفط العالمية تأثرا بالأزمة الأوكرانية لتقترب من 100 دولار للبرمي، وقالت مايكي كوري، مديرة الاستثمار في شركة فيدل إنترناشونا، إن النفط قد يتجاوز 100 دولار للبرميل بسبب الأزمة الأوكرانية، ونقص الاستثمار في إمدادات النفط والغاز حول العالم.
وكان بنك «جي بي مورغان» الأمريكي، وهو من أكبر البنوك في العالم، قد رجح منتصف شهر شباط/فبراير الجاري أن يؤدي النقص في إنتاج مجموعة «أوبك بلس» والمخاوف بشأن الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى استمرار شح الامدادات بسوق النفط، متوقعاً أن ذلك قد يدفع الأسعار للارتفاع إلى 125 دولاراً للبرميل في الربع الثاني من العام.
قد يبدو أن الدول العربية المصدرة للنفط كالسعودية والإمارات والعراق وليبيا، في مقدمة الدول التي سيصب ارتفاع أسعار البترول العالمية في مصلحتها، لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن أسعار البترول تتعرض لهزات سريعة وعنيفة نتيجة التأثر بالعوامل الجيوسياسية، وهذا الأمر غير محكوم بقوانين العرض والطلب في سوق الطاقة العالمي فقط. وقد رفض وزراء النفط والطاقة العرب دعوات ضخ المزيد من النفط لتخفيف الضغوط على الأسعار، وذلك أثناء مشاركتهم في المؤتمر الدولي لتكنولوجيا البترول بالرياض يوم 20 شباط/فبراير الجاري، مؤكدين ضرورة التزام «أوبك بلس» التي تشكل الدول العربية عمودها الفقري، باتفاقها الحالي الذي يضيف فقط 400 ألف برميل يومياً إلى الإنتاج شهرياً. وقد تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن مع الملك سلمان بن عبد العزيز هاتفيا، مطلع شباط/فبراير حول مجموعة من قضايا الشرق الأوسط وأوروبا، من بينها «ضمان استقرار مخزون الطاقة العالمي». إذ يعتقد خبراء الطاقة أن السعودية قادرة على خفض أسعار النفط، لأنها لا تضخ في الوقت الحالي كامل قدرتها الإنتاجية التي تبلغ 12 مليون برميل يوميا، مقارنة بـ 10 ملايين برميل في اليوم حاليا. ويمكنها أن تبلغ القدرة القصوى للتصدير خلال ثلاثة أشهر. لكن يبدو أن التأثير الروسي في «أوبك بلس» سيمنع الدول العربية في هذه المنظمة من سد النقص الحاصل نتيجة العقوبات الغربية على روسيا، إذ ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية في تقرير جاء فيه أن ارتفاع أسعار النفط ومعها المخاوف من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، شكلت معضلة بالنسبة للسعودية، ووضعتها أمام خيارين «أما مساعدة الغرب بضخ مزيد من النفط الخام لكبح جماح السوق، أو الوقوف بجانب تحالف نفطي مع روسيا استمر خمس سنوات، والذي قد يساعد موسكو على حساب واشنطن» ووفقا للصحيفة الأمريكية «يبدو في الوقت الحالي إن أكبر مصدر للنفط (السعودية) يقف إلى جانب روسيا» ونقلت الصحيفة عن خبراء الطاقة أن الأسعار المرتفعة ستدعم موقف الرئيس بوتين، واحتياطات بلاده من العملة الأجنبية والمحلية الروبل، في وجه أي عقوبات قد يفرضها الغرب.