يشكل غياب ترامب عن البيت الأبيض الفرصة لانتهاء الترامبية السياسية، وفي الوقت نفسه تدشين الترامبية الاجتماعية، التي استطاعت أن تقدم فكرة عن حجمها وتركيبتها في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، مع خمسة وسبعين مليون صوت ذهبت إلى الرئيس السابق، ولكن ما هي ملامح الترامبية السياسية؟
الفوضى التي يستخدمها البعض للتعبير عن سياسات ترامب ليست تعبيراً دقيقاً، والحالة الترامبية تقوم على ملامح واضحة في السياسة، أولها، اتساع أفق الخيارات، فهو وإن كان يدير بعض الملفات يوماً بيوم، ويمكن أن ينقلب من موقف إلى نقيضه، كما حدث مع كوريا الشمالية، فإنه يظهر صاحب رؤية متعددة المراحل، وهدف واضح كما كان الأمر مع الصين وصفقة القرن، والخيارات المتنوعة والمتناقضة، تفضي إلى استنتاج بضعف البنية الأخلاقية لترامب، فأي رئيس يمتلك بنية أخلاقية معينة، وبغض النظر عن حكمنا على هذه البنية، فإنه يتحرك ضمن مبادئ في النهاية، تحدد ما يتوجب رفضه، أو عدم مناقشته من الأساس، وأقصى ما يمكن تقديمه من تنازلات، في حالة ترامب كانت الإثارة السياسية عنواناً للأداء الأمريكي في العديد من الملفات.
من الملامح المؤسسة لحقبة ترامب، عودته إلى سياسة عدم التدخل، فهو يعرف أنه رئيس لن يدخل حرباً جديدة، وطالما أن العلاقات مع العالم لا تحقق مغنماً واضحاً ومغرياً، كما كانت علاقته مع دول الخليج، أو مغرماً فادحاً كما في حالة الصين، فإنه يتخذ موقفاً سلبياً، ويعتقد ترامب أو يتصرف من غير وعي ربما تجاه الحالة الأمريكية، من افتراض أن الاستثمار في الثروات الكبيرة لدى الأمريكيين هو استراتيجية أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، ولذلك كانت توجهاته تصب جميعاً في خانة الوظائف.. وظائف والمزيد من الوظائف، الأمر الذي كان يحققه بصورة جيدة قبل وباء كورونا. هل يمكن النظر إلى خسارة ترامب على أساس أنها كانت خسارة أمام كائن فيروسي، وليست خسارة في مواجهة خصومه السياسيين من الديمقراطيين وتوجهاتهم المحلية والدولية؟ وهل تحرك الديمقراطيين في الشارع الأمريكي كان بناء على استشعار الخطر من تفكيك نظريتهم السياسية، وضرب مبادئهم المؤسسة، وهو ما لم يستشعروه مع جورج بوش الابن مثلاً؟ ما الذي أحدثه ترامب وجعله يصل بالمجتمع الأمريكي إلى أقصى حالات الاستقطاب؟ استطاع ترامب أن يوقظ الغرائز الأساسية للمجتمع الأمريكي، وهي غرائز تسهل استثارتها، فمنذ وصول المهاجرين الجدد تولدت العديد من الطوائف الدينية، التي حاولت أن تقدم ديناً أمريكياً، مثل المورمون والأميش، وتكررت حالات تبعية عمياء لقادة دينيين أو شعبيين، وصولاً إلى انتحار جماعي مثلما حدث مع ديفيد كورش في التسعينيات، وحادثة واكو التي شهدت مقتله مع عشرات المؤمنين به، وترامب في الأسابيع الأخيرة، أخذ يقدم نفسه مثل ملك توراتي يتآمر عليه العالم، وهذه الصورة وجدت صداها لدى الأمريكيين البيض، الذين يعتبرون أنفسهم ضحية لأمريكا العالمية التي بزغت بعد الحرب العالمية الثانية بوصفها القوة المسيطرة في العالم.
الترامبية ستتفاعل في الولايات المتحدة، وربما نشهد خلال سنوات أحد الأفراد الذين شاركوا في حصار الكونغرس واقتحامه مرشحاً للرئاسة
يتساءل الأمريكي في المزارع والمصانع، أي بعيداً عن الولايات الساحلية حيث التجارة والتكنولوجيا والانفتاح، حول أوباما وكاميلا هاريس، ويتخوف من أن يتولد المزيد من هذه النماذج من خلال سياسات تشجيع الهجرة، التي تحميها الصوابية السياسية، والتحيز الإيجابي للمرأة والمهاجرين والملونين، في الكثير من المواقع، ويراهم في حواره مع نفسه، القادمون من بعيد الذين يسعون لجني ثمار الحلم الأمريكي مع أنهم لم يدفعوا ضريبة بناء أمريكا في حربها الأهلية، وفي صراع المؤسسين مع الطبيعة وأنهارها وجبالها وطقسها المتمرد. عدم التدخل بوصفه سياسة خارجية كان يتوافق مع رغبة ترامب في تقييد التجارة، ومنح الفرص للأمريكيين من أجل إنتاج حاجات السوق الأمريكي، والعودة إلى السيارات الكبيرة، بعد أن تمكنت شركات مثل هوندا وتويوتا من تلبية متطلبات الأمريكي الحضري (الأوربان) في المدن، وشرعنة الانغلاق ستلقي ظلالها على سلوكيات اجتماعية وأفكار سائدة تتعلق بالمهاجرين. ترامب لا يؤمن بالاستدامة، لا في العلاقات الدولية ولا في الاقتصاد، ولا يحمل رؤية تجاه التخطيط الاستراتيجي، وخبرته القديمة بوصفه رجل كازينو، تجعله يريد أن يكون الجميع سعيداً بدون أن يمنح أحداً فرصة التوقف والتفكير في النتائج بعيدة المدى لرهاناته، وهذا ما تمكن من زرعه في الأمريكيين البيض من أنصاره المتحمسين، والذين يفكرون في مزيد من الوفرة، التي تبدو متاحة أمامهم، حتى لو كان ذلك يتطلب تعديلاً في أنماط معيشتهم.
طويت أيام الرئيس ترامب في البيت الأبيض، ولكن الترامبية ستتفاعل في الولايات المتحدة، وربما نشهد خلال سنوات أحد الأفراد الذين شاركوا في حصار الكونغرس واقتحامه مرشحاً للرئاسة، ومعبراً عن المشروع الترامبي في بعده الاجتماعي، فأحداث الأسابيع الأخيرة تدلل على أن الأمر أخذ يؤسس لحراك اجتماعي من خلال استلهام ما تم تسويقه من مظلومية ترامبية، ولذلك يمكن أن نجد في حالة الفوضى التي سيطرت على واشنطن لأيام صعبة، موازياً موضوعياً لمرحلة الستينيات، التي أنتجت بيرني ساندرز وتياره، وشكلت وعي بيل وهيلاري كلينتون، ولجميع أنصار حركة الحقوق المدنية، الذين أخذوا يعتبرون أوباما حلم مارتن لوثر كينغ الذي تأخر تحقيقه.
كاتب أردني
الخطاب العنصري و الخطاب الشعبوي هو ما ميز مرحلة ترامب . ..أثبتت الانتخابات الأمريكية أن القضايا الخارجية لا تشكل اي ثقل في ميزان الربح في الانتخابات على الرغم مما قدمه ترامب لإسرائيل