ترامب: سقوط الابتذال

حجم الخط
17

بدأ عهده راقصاً في السعودية، وانتهى عهده راقصاً على مسرح هزيمته في آخر أيام حملته الانتخابية. انزاح الكابوس، فتاجر العقارات والمقاول «الشاطر» الذي نجح في تسلق رأس هرم الإمبراطورية سقط، ومعه سقطت البذاءة والفجاجة والابتذال والسماجة.
الرئيس الذي صعد على إيقاع أزمات العولمة وخيانات النخب وتوحش النيوليبرالية التي أعادت العالم إلى الصراعات الإثنية والقومية والدينية، سقط أمام أضعف مرشح في تاريخ الحزب الديمقراطي، فالأمريكيون لم ينتخبوا بايدن بل انتخبوا لإسقاط ترامب.
أسس دونالد ترامب مسرح اللامعقول في السياسة الدولية. رجل يكذب طوال الوقت ويتخذ قرارات عشوائية بحسب مزاجه، وحوله مستشار شمعي الملامح هو صهره، ومحاط بعصابة من الصهيونيين الليكوديين وعلى رأسهم سفيره في إسرائيل دافيد فريدمان، الذي حمل معولاً ونزل تحت الأرض بحثاً عن هيكل سليمان!
سياسة ممزوجة بالخرافات والأساطير الدينية، كراهية للملونين من سود وهيسبانيين وعرب ومسلمين، ذكورية متوحشة في بذاءتها، ورجل يتلهى بالتغريد وبالهجوم على حرية الرأي والصحافة. صوّت له عدد كبير من الفقراء البيض الذين يحتقرهم، وقاد بلاده إلى كارثة وباء كورونا بلا أقنعة، لأنه يزدري العلم، ولا يأبه بقدسية الحياة.
وفي النهاية نجحت «المؤسسة»، في لفظ ترامب. فالرجل لم يعد يُحتمل على كل الأصعدة، وكان لا بد من إزاحته كي لا ينزلق النظام السياسي الأمريكي إلى الخراب.
لم يأت دونالد ترامب من لا مكان، ولم يسقط عبثاً.
فالرجل صعد كتعبير عن أزمة اقتصادية وسياسية وأخلاقية صنعتها النيوليبرالية. وهو لم يمارس السلطة بل امتطاها، مجسداً ما لا يُقال. فالرجل قال كل المُضمرات في النظام الرأسمالي، كشف العنصرية والكراهية وازدراء الفقراء. وهي ثوابت حرص النظام على إخفائها. فأتى ترامب في لحظة تأزم ما بعد الحداثة ليكشف المستور ويتفاخر به. فصار صوتاً تلقفته العنصرية والعمال البيض الذين وجدوا أنفسهم في قلب التخبط والفقر، وعبّر عن قلق المناطق الريفية التي لم يتسع لها النظام، ووجدت نفسها خارج لغة النخب المهيمنة.
مثّل دونالد ترامب لحظة انهيار القيم الأخلاقية في مجتمع سياسي أمريكي غطّى جرائمه بحجاب قيم حقوق الإنسان والديمقراطية. فالرئيس كان حليفاً علنياً للديكتاتوريات والقتلة من ملوك النفط، وكان مشغوفاً بخطاب الإنجيليين الصهاينة، فصار نتنياهو مرآته التي يرى من خلالها العالم وقد غطاه خطاب ديني يستعد لمعركة أرمجدون الخرافية.
سقوط ترامب جاء تعبيراً عن قدرة المؤسسة establishment على استعادة زمام المبادرة، ووضع الأمور في سياقها التقليدي. فكابوس النزق السياسي قد انزاح، وستسعى الولايات المتحدة للعودة إلى قواعدها القديمة بصفتها الإمبراطورية التي تقود العالم وتمتص ثرواته وتهيمن عليه.
هيمنة بلا لغة تشبيحية، وعودة ليمين الوسط الذي يمثله جو بايدن. أي إلى لغة القفازات ومهارات الديبلوماسية، وضبط للصراعات الداخلية في أمريكا، بحيث لا تنفلت من عقالها مثلما حدث بعد جريمة قتل جورج فلويد التي نفذتها الشرطة بنفَس عنصري فاضح.
بايدن ليس برني ساندرز اليساري الإنسانوي، فالنائب السابق لباراك أوباما كان رجل التسويات، والوسطي الذي يحسن صوغ لغة مشتركة مع عتاة اليمين في الحزب الجمهوري، وصديق إسرائيل الذي يريد للدولة العبرية أن لا تكشف عنصريتها على طريقة نتنياهو. فالعنصرية الصهيونية ستستمر ولكن بقفازات تغطي حقيقتها بكلام عن السلام.
ورغم علمنا بأن القليل سوف يتغير، وبأن منطقتنا سوف تبقى أسيرة الحلف المطلق الأمريكي الإسرائيلي، فإننا شعرنا بقليل من الفرح، وسط مناخات الكآبة التي تحاصرنا.
لم يسبق للمنطقة وحكامها وشعوبها أن أهينت بهذه الفظاظة واللامبالاة والاحتقار.
قد نقول إن دونالد ترامب كشف حقيقة ممالك الملح والكاز ومحميات الخليج، وبرهن خلال أربع سنوات ما كان بحاجة إلى كشف داخل مخابئ التعفن. فجأة وبرقصة في السعودية شفط 450 مليار دولار. قال للملك السعودي ادفع كي تبقى على عرشك، فدفع الرجل مطاطئاً، ثم قال لدولة الإمارات ومملكة البحرين أنه في حاجة إلى نصر ديبلوماسي، يساعده في الانتخابات الرئاسية. لم يطلب منهما سوى كشف حقيقة تعاونهما مع إسرائيل. فهرع وزيرا خارجية البلدين إلى واشنطن، وتمتعا بصحبة نتنياهو، معلنين أن الأنظمة التي تسعى إلى الهيمنة على العالم العربي ليست سوى مجموعة من الأتباع الذين يحتاجون إلى أمريكا وإسرائيل كي يبقوا في السلطة.
قال ترامب للفلسطينيين أن لا دولة، بل مجرد معازل تطوقها إسرائيل، صحيح أننا كنا نعرف ذلك، ونعرف أنه لم يبق من عملية السلام سوى عملية فارغة من المضمون، لكن صفاقة صفقة القرن ولغتها التي تتبنى الرواية الإسرائيلية كاملة غير منقوصة، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بضم الجولان، جعلتنا نشعر بالهوان.
ذهب ترامب ولن يبكي على أطلال فقاعته سوى إسرائيل والمستبدين العرب.
في إسرائيل نجد ما لا نجده في أي مكان آخر في العالم. سبعون بالمئة من الإسرائيليين يؤيدون ترامب، بحسب استطلاع أجراه مركز ميدفيم الإسرائيلي. ترامب يتفوق على نتنياهو وعلى جميع السياسيين الإسرائيليين في دولة الاحتلال. فأكثرية الإسرائيليين وجدت في سوقية ترامب وعنصريته وخطابه المبتذل صورتها، بحسب المعلق الإسرائيلي جدعون ليفي.
تستطيع إسرائيل أن تتأقلم بصعوبة مع بايدن، وستدفع ثمناً كبيراً من عنجهية خطابها السياسي، وتطاوس رئيس حكومتها. أما في ممالك النفط ومشيخات الكاز والدول الخاضعة لاستبداد العسكر، فلا مجال لاستطلاعات الرأي، لأن هذه الأنظمة ألغت الرأي. ومع ذلك، أستطيع أن أتخيل حزن أمير المنشار ورعبه، وهلع الزاحفين إلى إسرائيل، وهم يشهدون سقوط نبي الكذب في أمريكا.
ودَّع الأمريكيون ترامب بما يستحقه من اللعنات ومظاهر الفرح والسخرية، أما في بلادنا المنكوبة بترامبات متنوعة الأشكال، تسرقنا وتتحكم بنا وتذلنا وتزدري آلامنا، فإن فرحنا سرعان ما سيتبدد.
نعود إلى واقعنا كي نكتشف أن هذا الانهيار العربي يحتاج إلى تغيير جذري، وعلينا أن نتلمس طريقنا إلى إزاحة ترامبات الاستبداد والاحتلال بالدم والألم.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سامي صوفي:

    إذا كانت سياسة الرئيس بايدن بعد توليه الحكم هي امتداد لسياسة «السيناتور بايدن»، فهذا سيكون خبراً مشجعاً.
    أما إذا كانت سياسة الرئيس بايدن امتداداً لسياسة «بايدن النائب للرئيس أوباما»، فهذا الخبر كارثي مثل بقاء ترامپ. لأنه يعني ضمناً تسلط نائبته كمالا هاريس على الحكم، و إعادة تعيين سوزان رايس و أمثالها في صنع القرار.

    1. يقول علي البحار:

      صدقت . كمالا هاريس وسوزان رايس من الصهاينة الديموقراطيين

  2. يقول ابو موسى الحمداني:

    اتفق مع الاستاذ الياس خوري ان الامريكيون انتخبوا بايدن ليس حباً بل لاسقاط ترامب وسياسته العنصريه
    عشت وعاش قلمك الاستاذ الياس خوري

  3. يقول الكروي داود النرويج:

    بالنسبة لي فإن بايدن وترامب وجهين لعملة صهيونية واحدة!
    الفرق هو أن ترامب صهيوني فوق الطاولة, أما بايدن فمن تحتها!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    كنت أتمنى نجاح ترامب في الإنتخابات حتى يكون السبب في تفكك الولايات المتحدة!
    السلاح موجود بمعظم المنازل هناك, والسبب العنصري سيدمر كل شيئ!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول ابو طالب:

    تقرأ المقال فتعلم ان كاتبه بحق رجل متزن ومثقف

  6. يقول سنتيك اليونان:

    سياسة امريكا في الشرق الاوسط ثابتة الاسلوب سوف يتغير
    ترامب كان صريحا وواقعيا وافهم العرب انهم ضعفاء لا حول لهم وعليهم الخضوع…. ترامب عدو صادق وشريف
    الرئيس الجديد سوف يبيع العرب اوهام

  7. يقول وليد ج. قدورة:

    جميل كالعادة

  8. يقول باسم فلسطين:

    لا نتوقع أن بايدن سيجلب الخير للمسلمين ولكن خسارة ترمب تبث فينا الأمل والعزيمه لاسقاط حكام العرب المتصهينين المطبعين اللي حطوا كل بيضهم في سله ترمب

  9. يقول باسم فلسطين:

    ان حقيقه اعاده انتخاب ترامب بحوالي 48% انما يعكس العقلية الامريكيه الأنانية والغير اخلاقية تجاه الشعوب المقهوره. نعتبر نتيجه الانتخابات التي حصل عليها ترمب انتصار عظيم لمعركة الوعي للشعوب العربية التي تراهن على امريكا. لقد فضح ترمب حكامنا الخونة وفوزه من عدمه لا يزيدنا الا إصرارا على إسقاط الأنظمة العربيه المتصهينه الخائنة!

  10. يقول آصال أبسال:

    /سقوط ترامب جاء تعبيراً عن قدرة المؤسسة establishment على استعادة زمام المبادرة، ووضع الأمور في سياقها التقليدي. فكابوس النزق السياسي قد انزاح/..
    لا أظن أن من صوتوا لـ”الناعس جو” كانوا يفكرون بأي من هذه الأشياء التبريرية الارتياحية التي تذكرها.. على الرغم من فوز هذا “الناعس جو”، كانت هناك نسبة كبيرة نسبيا من الشعب الأمريكي قد صوتت لـ”الصاحي ترامب” /وقد ربت أصواتها عن السبعين مليون صوت/.. مما يدل دلالة أكيدة على أن نسبة كبيرة نسبيا من الشعب الأمريكي إنما يروق لها، لا بل تستسيغ أيما استساغة، خطاب الكراهية والعنصرية والشعبوية والعنجهية الذي مثله “الصاحي ترامب” على الملأ، ودونما أي تحفظ أو مبالاة – وقد كان هذا “الصاحي” صادقا جدا ونزيها جدا في هذا التمثيل.. !!

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية