يصعب الحصول على معلومات وتحليلات، تتسم بحد أدنى من التوازن والمهنية، في ما يتعلق بسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فالاستقطاب الحاد في المؤسسات البحثية والإعلامية الأمريكية والغربية عموماً، لا يفيد إلا بتكوين صورة أحادية عمّا يجري، قد تنفع في السجالات الأيديولوجية، ولكن بالتأكيد لا قيمة كبيرة لها في فهم الظواهر الاجتماعية والثقافية.
تصريحات ترامب الأخيرة، التي يطالب فيها عدداً من نواب الحزب الديمقراطي الإناث بالعودة إلى بلادهن، قد تبدو نموذجية في الحكاية الإعلامية السائدة: رجل أبيض عنصري يطالب بطرد نساء ملونات من بلدهن، ما يثير استنكاراً أخلاقياً واسعاً، وموجة معاكسة للتصدي للعنصرية. مع ذلك فإن الرئيس الأمريكي يبدو واثقاً بنفسه، وماضياً في تنفيذ مشاريعه وسياساته، في حين يظهر الانقسام واضحاً في معسكر خصومه، رغم كل التضامن مع «ضحايا» عنصريته. فهل يمكن فهم ما يحدث بعيداً عن النميمة السياسية اليومية؟ وإيجاد تفسير للصراع يتجاوز الصيغ التقليدية لصراع الخير والشر، بين عنصريين وغير عنصريين، بيض وملونين؟
بناء المعسكر السياسي
يتحدث البعض عن رجال بيض عنصريين، يستغلّ ترامب غضبهم بسبب التغيرات الاجتماعية والثقافية، التي أدت لبروز فئات جديدة، من نساء وأقليات وملونين. إلا أن معسكر ترامب يبدو أكثر تعقيداً من هذا التحديد العنصري المبسّط، فهو يحوي ناخبين تقليديين للحزب الجمهوري، متدينين محافظين، رجالاً ونساءً، جانباً كبيراً من سكان «حزام الصدأ»، أي العمال الذي تضرروا من آثار نزع التصنيع، مستثمرين مناهضين لتشديد الضرائب على الفئات الأعلى دخلاً، أكثر من ربع المهاجرين اللاتينيين الذين يحقّ لهم الانتخاب، المتململين على ما يبدو من هجرة مزيد من أبناء جلدتهم، دعك من أن ترامب نال من أصوات السود أكثر من المرشح الجمهوري السابق ميت رومني. لا يبدو ترامب المرشح المثالي لأي من هذه الفئات، فلا هو شخص متدين أو مُحترم بين صقور الجمهوريين، ولا هو مناضل نقابي أو رجل أعمال موثوق، وبالتأكيد ليس الرجل المفضل للأقليات. وربما لذلك استطاع أن يرضي جانباً من طموحات كل فئة من هذه الفئات، بدون أن يكون محسوباً على جهة بعينها.
في اختصار نجح ترامب بإقامة ائتلاف سياسي متنوع العناصر، من الفئات التي لا تتطابق قيمها بالضرورة مع أخلاقيات الأيديولوجيا السائدة، على أساس خطاب يحوي عناصر وطنية وثقافية واقتصادية وطبقية. فهو وعد بنمو اقتصادي يزيد أرباح المستثمرين، ويخلق فرص عمل للفئات الأفقر في الوقت نفسه، مؤسساً نوعاً من الائتلاف الطبقي بين أنصاره، وربط كل ذلك بالعظمة الوطنية لأمريكا، ومواجهة الاستعلاء الثقافي للنخب و«المؤسسة». فحقق ببراعة المتطلبات الأساسية للسياسة الشعبوية: إقامة معسكر سياسي، يقدم وعوداً اجتماعية وثقافية واقتصادية لشرائح سكانية متعددة، تتضامن على أساس مواجهة عدو سياسي واضح المعالم. سياسات الهوية في هذا السياق ليست سوى عنصر واحد من عناصر السياسات الترامبية، فهو يتحدث أيضاً عن إحياء مصانع الصلب، تحسين الشروط التنافسية للمستثمر والعامل الأمريكي، تجديد البنية التحتية، إلخ. ما يجعله أقرب للطرح الاجتماعي من معارضيه ذوي الطرح الثقافوي.
على الجانب الآخر تظهر كثير من الانشقاقات ضمن الائتلاف الذي يشكّله خصوم ترامب، والذي يحوي أقليات تشكك كل منها بالأخرى، وتعتبر نفسها ضحية البقية، رأسماليين كباراً من أنصار اقتصاد السوق والتجارة الحرة إلى جانب أنصار الاشتراكية، ناشطين بيئيين وهوياتيين إلى جوار فئات مسحوقة، لا تصلها خيرات «التمكين» النخبوي، أو تملك رفاهية التفكير بإنقاذ الكوكب. والصراع بين كل هذه الفئات يزداد وضوحاً. ولا يبدو أن الطرح الهوياتي المثالي، الذي يحدد ما يجب أن يكون عليه السود والنساء والأقليات، كافٍ لتجاوز كل هذه الخلافات، وتوحيد الفئات المتعددة ضد الخصم. قد يكون هذا دليلاً على ضعف الطرح الذي يؤكد أننا في عصر يطغى فيه الثقافي والهوياتي على الاجتماعي.
تصريحات ترامب أدت إلى خلق بعض التضامن بين الفئات المتصارعة، فبعد خلاف بين نانسي بيلوسي وألكسندريا أوكازيو- كورتيز، لجأت فيه الأخيرة، كالعادة، إلى التظلّم الهوياتي، متهمةً بيلوسي باستهداف «النساء الملونات»، اتحد الجميع على إدانة عنصرية ترامب، إلا أن هذا التضامن قد تكون له نتائج عكسية، فإعادة الناشطات التقدميات، اللواتي لا يتمتعن بشعبية كبيرة في الحزب الديمقراطي، إلى الواجهة، سيؤدي إلى اشتعال الخلافات من جديد، وتشتت الجمهور الديمقراطي، وربما هذا ما أراده ترامب من تصريحاته.
اقتناع جيجيك بأن الصراع الطبقي مقتصر على المعسكر الديمقراطي يبدو غريباً، وكأن الملايين التي انتخبت ترامب خارج التاريخ والمجتمع وصراعاتهما، واعتباره التقدميين في الحزب الديمقراطي قادة طبقيين فيه كثير من المشاكل.
صراع الديمقراطيين الطبقي
سبق لسلافوي جيجيك أن تمنى نجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية، ما أثار موجة استنكار ضده. مؤخراً نشر المفكر السلوفيني مقالاً يدافع فيه عن وجهة نظره، التي أكدتها أحداث السنوات الأخيرة كما يعتقد. فالحلول الديمقراطية والانتخابية تكون بين أطراف مُجمعة على الحد الأدنى من الأسس السياسية والاجتماعية، وهذا لم يعد متحققاً في الشرط الرأسمالي المتأخر. ترامب كسر الإجماع الديمقراطي من جهة اليمين، في حين يكسره الاشتراكيون، من أنصار بيرني ساندرز، من اليسار. إلا أن خرق الشعبويين لأعراف المؤسسة النيوليبرالية هو مجرد صراع ثقافي وهوياتي ضمن المنظومة الرأسمالية نفسها. أما خرق اليساريين فهو برأيه يستهدف إحداث تغيرات جذرية في المنظومة، ولذلك فإن الصراع الحقيقي الوحيد الذي يدور في عالم اليوم هو الصراع داخل الحزب الديمقراطي، وفوز ترامب هو ما أشعل هذه «الحرب الأهلية» بين الديمقراطيين، التي هي في الواقع صراع طبقي بين الطبقات العليا المسيطرة على الحزب من جهة، وجمهوره المتضرر من الرأسمالية من جهة أخرى. وانتصار الطرف الثاني هو «أملنا الأخير» حسب تعبيره.
لا يوافق جيجك على مماثلة رأيه بموقف الشيوعيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، الذين رفضوا التحالف مع الليبراليين ضد صعود الفاشية، لأن تشبيه ترامب بالفاشيين أمر سخيف بالنسبة له، والتهديد بفزّاعة الفاشية سيجعل السياسات اليسارية تابعة دوماً لليبرالية الجديدة. أمريكا أثبتت أنها تمتلك مؤسسات دستورية قادرة على تعطيل التطرف اليمني، بشكل أكبر من فرنسا المعاصرة مثلاً، التي قد يشكّل وصول ماري لوبان للسلطة فيها تهديداً حقيقياً.
اقتناع جيجيك بأن الصراع الطبقي مقتصر على المعسكر الديمقراطي يبدو غريباً، وكأن الملايين التي انتخبت ترامب خارج التاريخ والمجتمع وصراعاتهما، واعتباره التقدميين في الحزب الديمقراطي قادة طبقيين فيه كثير من المشاكل. كما أن جيجك مازال، على ما يبدو، متمسكاً بالصيغة التقليدية للسياسات الشعبوية اليسارية، التي لم تثبت نجاحاً كبيراً في السنوات الماضية.
أزمة الشعبوية اليسارية
الائتلاف بين الطبقة العاملة والطبقة الوسطى المُفقرة، والناشطين الهوياتيين والبيئيين، وهو ما دافع عنه مفكرو الشعبوية اليسارية، مثل جيجك وشانتال موف ونانسي فريزر وديفيد هارفي، يمرّ اليوم بأزمة واضحة، بانت ظواهرها في أوروبا مع فشل تجربتي سيرزا وبوديموس، وفي أمريكا مع مآلات حملة ساندرز، وصعود الظواهر «اليسارية» الجديدة مثل أوكازيو- كورتيز وإلهان عمر. فمشروع الاشتراكية الديمقراطية، الذي اتضح أنه ليس أكثر من إعادة تدوير لأفكار اقتصادية كينزية، تعود للنصف الأول من القرن الماضي، لا يبدو قادراً على تقديم بديل مقنع، يمكن أن يؤسس لائتلاف اجتماعي كبير. أما التصريحات الإعلامية عن تشديد الضرائب على الأغنياء، و«الصفقة الخضراء الجديدة»، التي تقدمها «الوجوه الملونة التقدمية» للحزب الديمقراطي، فقد تكون مناسبة لإعادة التغريد على موقع تويتر، ولكن ليس لبناء سياسة فعّالة. وقد تؤمن، مع اللعب على الوتر الهوياتي، بعض الشهرة لقائليها، وصفقات مجزية مع شبكة نيتفليكس. ليس أكثر.
لا يبدو أن الحزب الديمقراطي قادر على تقديم قادة طبقيين، لأن غرق كل ممثليه اليساريين في الخطاب الهوياتي، سيمنعهم من الوصول إلى الفئات التي من المفترض أن يمثلوها، فساندرز «رجل عجوز أبيض»، وأوكازيو- كورتيز منهمكة بصراعاتها مع البيض رجالاً ونساءً. ولذلك لن يستطيعا الجمع بين عمال «حزام الصدأ» و«مهمشي الأحياء الملونة»، والتعبير عن احتياجاتهم الفعلية، وربما سيبقيان دوماً ظاهرة على هامش السياسات النيوليبرالية، التي تملك القوة الفعلية من أموال ومؤسسات ووسائل إعلام، وتعتبر سياسات الهوية ملعبها المفضّل.
في أوروبا تخلّى كثيرون عن «اليسار الشعبوي» لمصلحة تصليب المجتمع البرجوازي ضد الشعبوية، كما يحدث في ألمانيا مثلاً، أو باتباع سياسات «اليسار الواقعي»، الذي يستنسخ عناصر من الأجندة اليمينية، كما في الدنمارك. أما في أمريكا فلا البرجوازية لديها القدرة والرغبة على الاتحاد ضد ترامب، ولا اليسار يميل إلى الواقعية. فضلاً عن أن الحلول الأوروبية نفسها ليست تجاوزاً للأزمة، بقدر ما هي محاولة لتسكين أعراضها وحسب. ربما يجب البحث عن «خرق» للمؤسسة في سياسات اجتماعية، قادرة على بناء ائتلافات شعبية فعلية، تتجاوز العنصرية بدلاً من تصعيدها، وتؤسس لقيم التضامن، بدلاً من تعويد البشر على التذمر الهوياتي.
٭ كاتب من سوريا