صدق المفكر الفرنسي بيرنارد هنري ليفي حينما استشاط غضبا من تجاهل الإعلام الغربي الوضع الإنساني في سوريا، خاصة بعد خرق وقف إطلاق النار الأخير، الذي سادنا بشأنه اعتقاد أنه سيتوج التعاون الروسي التركي في الملف السوري بنجاح.
مرحلة مفصلية من هذا التعاون حدثت في 17 سبتمبر/أيلول 2018 عندما توصل الرئيسان الروسي والتركي، بعد اجتماعهما في سوتشي إلى اتفاق يقضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب، لتجنب حرب في منطقة تضم ما يقارب الثلاثة ملايين نسمة، وكذلك بهدف إبعاد التنظيمات المتطرفة للمضي بالعملية السياسية قدما.
عندما نص الاتفاق على أن وحدات من الشرطة التركية والروسية ستقوم بمراقبة المنطقة، عندما أعلن الرئيسان أن جميع الفصائل المسلحة والفصائل المتطرفة ستنسحب بسبب قوة إقناع تركيا التي تربطها بهذه الفصائل علاقات وطيدة، وعندما أعلنا، تتويجا للاتفاق، أنهما سيعملان على فتح حركة المرور بين طريق حلب – اللاذقية (M4) وطريق حلب – حماة، أي طريقين يعتبران شريان الحياة الاقتصادية، في منطقة ستبقى تحت سيطرة المعارضة، بعد تطبيق الاتفاق.. اعتقد المرء بعد هذه الإعلانات المشجعة أن بارقة أمل تلوح في الأفق.. أعتقد أن التنسيق الإيراني – الروسي – التركي المشترك، سيعطي معنى لتسميتي«منطقة منزوعة السلاح” و”مناطق خفض التصعيد”، اعتقد أن إدلب شمال غرب البلاد ستسجل انتصارا لمخطط ذي نفس طويل تضمنته بنود الاتفاق نفسها: الجمهورية التركية والاتحاد الروسي، باعتبارهما ضامني الالتزام بنظام وقف النار في الجمهورية السورية العربية، وبالاسترشاد بمذكرة إقامة مناطق خفض التصعيد داخل الجمهورية السورية العربية في 4 مايو/ايار 2017، والترتيبات التي تحققت في عملية أستانة، وبهدف تحقيق استقرار الأوضاع داخل منطقة خفض التصعيد في إدلب، في أقرب وقت ممكن، اتفقتا على الإبقاء على منطقة خفض التصعيد في إدلب، وتحصين نقاط المراقبة التركية واستمرار عملها”.
وصول الروس إلى مناطق تعتبر عمقا استراتيجيا لتركيا في سوريا، دليل على أن موسكو لم تعد تدخل التقارب في الحساب
هذا هو أول بند من بنود اتفاق سوتشي، وكانت تركيا قد طرحت فيه أيضا الانتقال من اتفاق خفض التصعيد إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار في مناطق سيطرة المعارضة. كان هذا السياق يندرج ضمن عملية مخطط لها أن تؤدي الى قيام«دولة سورية موحدة غير طائفية ومتعددة” (بيان أستانة 2017). كما بات القرار الأممي 2254 الداعي إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة على خلفية العملية ذاتها. نعلم أن رفض الإدارة الذاتية الكردية التي يقودها اتحاد العمال الكردستاني، هو ما جعل تركيا توطد علاقتها بروسيا، بعد أن أدارت واشنطن ظهرها لموضوع المصالح القومية التركية، ما جعل تركيا تدخل في تحالف مصلحة مع روسيا، معتقدة أن صوتها سيظل مسموعا. لكن وصول الروس إلى مناطق تعتبر عمقا استراتيجيا لتركيا، دليل على أن موسكو لم تعد تدخل التقارب في الحساب، وإلا كيف نفسّر غض روسيا الطرف عن الضربة الجوية الأخيرة على المنطقة، التي أسفرت عن مصرع 34 جنديا تركيا، فمهدت لعودة التصعيد في منطقة خفض التصعيد؟
هذا السيناريو، استوعبته منظمة شمال حلف الأطلسي جيدا، وكذلك المفوضية الأوروبية في مسعاهما لإعادة تركيا إلى حضنهما. لقد قابل الرئيس أردوغان مؤخرا المفوضية الأوروبية الجديدة أورسولا فون در لاين لإعادة التفاوض على اتفاق إدماج اللاجئين. ونعلم أيضا كيف يقف التوظيف السياسي لملف اللاجئين في المرصاد، خاصة بالغلاف المالي المقدر بـ6 مليارات يورو، الذي قدمه الاتحاد الأوروبي لتركيا. مساومة ما فتئ يلجأ إليها الرئيس التركي ملوحا بفتح المعابر وتحويل ملف اللاجئين إلى عملة ثلاثية الأبعاد: اقتصادية، سياسية، واجتماعية. وهناك من يقول، أيضا، حضارية.
هنا يطفو على السطح من جديد موضوع إقامة منطقة عازلة في شمال شرق سوريا، وموضوع التبادل السكاني في منطقة معظم سكانها من الأكراد، ترغب تركيا في أن يصبح معظم سكانها من اللاجئين. عادت تركيا تتحرك من جديد على إيقاع الساعة الأوروبية. لقد خلق اهتزاز«رابط المصلحة” في روسيا مساحة رأتها القارة العجوز مناسبة للاستثمار مرة أخرى. عود على بدء.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي