في العام الماضي حدثت بعض الاختراقات على صعيد العلاقات التركية الأوروبية، كان من آخرها زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لأثينا، التي رمزت لإنهاء حقبة معقدة من العلاقات المتوترة بين البلدين. جرت أيضا خلال العام زيارات أخرى مهمة على مستويات مختلفة، في إطار سياسة تعزيز الحوارات الثنائية، في وقت يتواصل فيه الجمود المتعلق بالانضمام الرسمي للاتحاد الأوروبي.
الأمور لم تسر كلها بوتيرة واحدة، فقد شهد العام أيضا تحديات مرتبطة بالعلاقة بين الجانبين التركي والأوروبي، وظهور تباين وجهات النظر بينهما حول قضايا كثيرة. من هذه القضايا قضية إقليم ناغورنو قرة باغ الأذربيجاني، التي تساند أنقرة فيها باكو في جهودها المتعلقة بفرض سيادتها الشاملة على حدود بلادها. أنقرة كانت قد أعلنت دعمها للجيش الأذربيجاني في عمليته الأخيرة في التاسع عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، التي هدفت للقضاء على الانفصاليين.
في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي صدر قرار مهم من البرلمان الأوروبي حول أحداث الإقليم الأذربيجاني. دعا القرار الأوروبي إلى فرض عقوبات على أذربيجان، متهما باكو بالتطهير العرقي، كما أدان تركيا بسبب تسليحها لأذربيجان ودعمها لها في تحركاتها العسكرية. التحرك البرلماني أغضب آنذاك كلا من باكو وأنقرة، التي ردت ببيان وصفت فيه القرار بـ»الشعبوي والعنصري والمعادي للإسلام»، وبأنه «مبني على خطاب يستهدف بلدنا من جانب مجموعة من البرلمانيين الشعبويين، على أساس اتهامات لا أساس لها»، كما قال البيان الصادر عن الخارجية التركية إن «الشعبوية والعنصرية ومعاداة الإسلام تكتسب أرضية في السياسة الأوروبية، مثلما يظهره التكوين الحالي للبرلمان». كان الإعلام الأوروبي، الذي اختبر الجميع صدقه وموضوعيته بعد أحداث غزة، يتبنى موقفا منحازا للأرمن منذ اندلاع الأزمة، تبنى هذا الإعلام رواية تعرض أرمن أذربيجان للتهجير والتجويع، بل لحملات «تطهير عرقي» أيضا. تكمن المفارقة في أن هذا الانحياز لم يترجم لعمل ملموس، أو لتقديم أي نوع من الدعم، كأن الغرض منه كان منحصرا في الاستهلاك الإعلامي والابتزاز السياسي. يجب أن نتذكر أن مصلحة الدول الأوروبية باتت مرتبطة بأذربيجان، التي لا تورد فقط غازها، ولكنها تورد الغاز الروسي أيضا بعد «تبييضه» ونقله كغاز أذري. هذا الالتفاف مكلف، لكنه مفيد لحفظ ماء وجه الأوروبيين، الذين يصرون، في العلن، على مقاطعة روسيا.
مصلحة الدول الأوروبية باتت مرتبطة بأذربيجان، التي لا تورد فقط غازها، ولكنها تورد الغاز الروسي أيضا بعد «تبييضه» ونقله كغاز أذري
في تحليلها لأسباب هذا الموقف المتناقض لأوروبا الصامتة، لكن التي تتعاطف إعلاميا وحقوقيا مع أرمينيا، تحدثت المحللة الفرنسية نيكول بشاران عن موضوع الغاز، لكنها تحدثت أيضا عن أسباب أخرى تعيق اتخاذ موقف أوروبي وازن من الأزمة. على رأس ما ذُكر من أسباب كان الدبلوماسية الأذرية ونجاحها في رعاية لوبي مساند قوي. بشاران مضت أبعد من ذلك لاتهام أذربيجان بـ»شراء» برلمانيين وسياسيين أوروبيين لتعزيز موقفها. تحليل بشاران ونبوءتها، التي اتفق معها محللون آخرون، بشأن العجز الأوروبي عن التحرك لدعم أرمينيا والضغط على أذربيجان لم يتحققا بشكل كامل. قرار البرلمان الأوروبي كان يهدف للقول إن الأوروبيين ما يزالون فاعلين، وإن «الديمقراطيات الغربية» ما تزال قادرة على التكاتف لنصرة أصدقائها. أرمينيا مهمة لأوروبا لعدة أسباب منها أنها مسيحية، ومنها أنها تصنف في المخيال الأوروبي كديمقراطية مزدهرة، وسط إقليم من الاستبداد، إلى جانب كل ذلك ازدادت أهمية البلد، حينما أظهر نفسه كنموذج ناجح لدولة سوفييتية سابقة، استطاعت فك ارتباطها بموسكو. منذ عام 2018 وبعد سطوع نجم رئيس الوزراء نيكول باشينيان، الذي كان يعرف سابقا باعتراضه على النفوذ الروسي، تمتع البلد بالفعل ببعض الاستقلالية، بل بلغ الأمر بأرمينيا، التي ما تزال عضوا في تحالفات تجمعها بروسيا، حد التنسيق العسكري مع الولايات المتحدة والمصادقة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، التي تلاحق بوتين بجرائم حرب. بالنسبة لعامة الأوروبيين، فإن أرمينيا، التي لا تكاد تملك أصدقاء مقربين في جوارها، تستحق الرعاية والدعم، خاصة في قضية قرة باغ، التي تأتي في أعقاب الأزمة الأوكرانية. الأوروبيون لم يكونوا يرغبون في الظهور مرة أخرى بمظهر العاجز.
التذكير بالمثال الأوكراني مهم في هذا السياق، فقد سبقت كييف يريفان في الاتجاه إلى الغرب ونفض اليد عن الشراكة الروسية، التي كانت تمنحها بعض الأمان، لكن ما حدث هو أنه تم التخلي عنها في وسط الطريق، فلا هي تركت لتنضم للاتحاد الأوروبي، أو حلف شمال الأطلسي من أجل تأمين دفاعها، ولا حتى سمح لها بالحصول على سلاح كاف لضمان أمنها. أرمينيا بدورها، وبعد عيشها لعقود في الكنف الروسي، ما لبثت أن غيرت بوصلة اتجاهها، لتخسر علاقتها بموسكو، التي لم تنس لها ذلك وتركتها وحيدة، ليس فقط إزاء مساعي أذربيجان لاستعادة إقليم ناغورنو قرة باغ المحتل، ولكن أيضا إزاء إرهاصات الغرق في فوضى داخلية قد تمتد لإسقاط باشينيان وحكومته. امتداد القرار الأوروبي لذكر تركيا، المتهمة من قبل الأوروبيين بأنها تسعى لاستعادة الأمجاد العثمانية، وبسط نفوذها في المنطقة، مفهوم في سياق الاتفاق الغربي على رفض تعاظم دور أنقرة ومحاولة تحجيمه. يعلم الجميع أنه لولا المساندة التركية لأذربيجان، لما استطاعت الأخيرة تحرير أراضيها وإجبار أرمينيا على التسليم، وهو أحد أهم الأدوار، التي أظهرت أن بالإمكان الاعتماد على تركيا كحليف عسكري قوي وموثوق به. من غير المستبعد أن تكون تركيا استغلت علاقتها الجيدة مع روسيا، من أجل تحييدها في ملف قرة باغ. لدى موسكو في الوقت الحالي مشاغل أهم كثير من الدخول في صراعات جانبية، خاصة مع دول تتقاطع مصالحها معها في ملفات كثيرة، على رأسها التبادل التجاري. لا ترغب روسيا بأي حال في خسارة تركيا، التي تستثني نفسها من توقيع عقوبات عليها، فتمنحها متنفسا اقتصاديا مريحا.
هذا قد يفسر رفض قوات حفظ السلام الروسية التدخل، كما قد يفسر تقليل الرئيس الروسي مما حدث وتعبيره عن تفهمه لتحرك باكو، باعتبار أن الإقليم هو أذري من ناحية القانون الدولي. من الواضح أنه حدث نوع من التفاهم على تقاسم المصالح بين دول المنطقة، التي تتشارك في تحدي الضغوط الغربية، ربما يشمل هذا إيران، التي كانت مقربة لوقت طويل من أرمينيا، والتي لم يكن لها رد فعل واضح. هذه التفاهمات قد يكون من نتائجها إنهاء تاريخ طويل من الضغط الروسي بذريعة حماية الأرمن. الضرب على الأوتار المتعلقة بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وهي العبارات المتكررة على لسان السياسيين والبرلمانيين الأوروبيين أيضا كان مقصودا، ففيه إشارة لادعاءات المجازر التاريخية التي تبنى عليها سردية المظلومية الأرمنية، والتي تتبناها معظم الدول الأوروبية كوسيلة للضغط على تركيا. البيان لم يكن له تأثير يذكر على تركيا، التي رأت فيه مجرد وثيقة صادرة عن مجموعة من المتطرفين، الذين غزوا المؤسسات الأوروبية. على الضفة الأخرى برز سؤال حول إمكانية ترجمة هذه الإدانة إلى أفعال وعقوبات تقود إلى مقاطعة أذربيجان، الشريك غير الموثوق به، وفق ما دعت إليه في وقت سابق رئيسة البرلمان الأوروبي اليمينية روبرتا ميتسولا. مقاطعة أذربيجان ممكنة نظريا، لكن ذلك سوف يعني أن الاتحاد الأوروبي، الغارق في الأزمات، سوف يعاقب نفسه أيضا.
كاتب سوداني