هناك في المشهد الثقافي العربي كلمة جديدة وتستخدم بشكل عشوائي هي «التروما».
هذه الكلمة جديدة نسبياً في الثقافة العربية لكنها لم تتبلور في صيغتها المحدثة، لتدل على شيء محدد.
فقد يقول أحدهم: «أنا مصاب بتروما الحرب الأهلية»، وهو مصيب في ذلك لأن من تعرض للخطف أو للعنف يحق له أن يعاني من الصدمة التي لا يستطيع التخلص من آثارها بسهولة.
أما أن يأتيك اليوم شاب في العشرينات أو الثلاثينات ويدعي أنه مصاب بصدمة الحرب الأهلية فهذا أمر يثير السؤال. فإما أن يكون تحت تأثير خطاب شائع في بيئته أو أن يتكئ كلياً على ذاكرة أهله.
الذاكرة التي يصنعها الأهل ولا تكون ابنة المعاش تكون تركيبة أيديولوجية لها وظيفة محددة وهي إعادة شحن النفوس في إطار حرب أهلية دائمة.
لذا وجب التنبه لما في هذه الكلمة من منزلقات وخاصة في اللغة العامية، بحيث يصير كل شيء يشبه أي شيء.
ما معنى أن يقول لك طالب جامعي إنه مصاب بالتروما لأنه يعاني من وجع صغير في الرأس ويبدأ في تحليل تاريخه الشخصي مستنداً إلى معطيات حقيقية وخيالية؟
عندها تصير التروما حاجة وليست عارضاً نفسياً يجب علاجه نكون قد دخلنا بابتذال التروما، أي في حاجتنا نحن إلى تبرير حياتنا بالتروما كي نستطيع أن نتحملها.
خطر تجدد الحروب الأهلية يقع في هذا المنزلق، لذلك علينا أن نستعمل الكلمات بدقة كي نفهم إلى أين تأخذنا.
هذا لا يعني بالطبع أن التروما هي وهم محض، فهي عارض نفسي حقيقي قد يخلخل حياة المرء ويجعلها غير ثابتة، يلعب فيها الوهم دوراً كبيراً.
فالتروما هي صدمة والصدمة تتم بأدوات نفسية تشكلت بعد صدمة فعلية، لذلك يجب معالجة التروما بجدية كي لا تستولي على المجتمع.
وفي الواقع نحن جميعاً وقعنا تحت رحمة التروما حتى ولو لم نشعر بها.
في بيروت نواجه نوعين من الصدمات أو التروما:
الأولى هي صدمات فعلية ناجمة عما تبقى من آثار الحرب الأهلية أو الحروب المتعددة التي عاشها اللبنانيون: الاغتيالات، والقصف العشوائي، والانفجارات الوحشية التي توجها انفجار 4 آب، وإلى آخره.
من جهة ثانية، هناك ما يواكب هذه التروما الفعلية عبر تروما وهمية. تجدهم في البارات يسكرون ويمارسون مكبوتاتهم الأوروبية، منطلقين من فكرة أنه يحق لهم ذلك لأنهم مصابون بالتروما.
مأزق كبير، لأن الحقيقي يمتزج بالمتخيل بحيث صار الذين يكذبون يصدقون كذبتهم ويعتبرونها مبرر تصرفاتهم.
اللافت أن التروما قسمت الناس بين صامت وناطق.
الصامتون كانوا دائماً من عانوا الصدمة أو يعانونها. فالصدمة تُخرس وتجعل الإنسان عاجزاً عن الكلام.
الأمثلة على ذلك لا تحصى، من نكبة الفلسطينيين التي كان علينا أن ننتظر خمسين سنة كي تنطق، إلى نكبة الأرمن ومذابح إفريقيا.
مجموعة من الكوارث حاصرت شعوباً لم تكن تملك القدرة على التعبير.
في رواية أتشيبي، الأشياء تتداعى، نعثر على هذا الصراع بين التعبير وعدم القدرة على التعبير، فتدور الرواية بين العبث والحداثة وتضمحل الشخصيات وينتحر البطل.
الضوضاء التي يثيرها من يدعي التروما تحجب طبيعة المشكلة. فالمشكلة ليست في كمية الدموع التي تثيرها بل في الجرح الذي يصيب الوجدان ويغرقه في صمت تأملي.
روى طفل فلسطيني في شهادة كتبتها في رواية أولاد الغيتو: اسمي آدم عن تجربته في غيتو اللد قائلاً: إنه عندما كان صغيراً كان يشعر بآلام حادة في ظهره لكنه لم يكن يحكي عنها، إلى أن مر بهم طبيب الأونروا وسأله: ممَّ يشكو؟ فقال الطبيب: «هذه التروما ولا يوجد أي شيء بيولوجي هنا». فصار لصغير الغيتو اسمان: اسمه الحقيقي وتروما.