ترى من هم الواهمون الخياليون؟

هناك فرق كبير بين ممارسة النقاش، أو الجدال، وممارسة المماحكة. الممارسة الأولى تعتمد المنطق والأخذ والعطاء والاحترام المتبادل في التعبير عن الرأي، أما الممارسة الثانية فتعتمد النرجسية التي لا تعترف بحق الآخر، والخصومة الجارحة في الاختلاف وفي التعابير. الأولى محاولة للاقتراب من الحقيقة وللتقدم الفكري، والثانية هي إعلان حرب من أجل الانتصار العبثي. من هنا اعتبر البعض المماحكة أسوأ أنواع المحادثة بين البشر.
مناسبة التذكير بتلك البديهيات هي التعابير التي يستعملها بعض المثقفين العرب بحق من يخالفونهم الرأي في المجال الفكري السياسي، وتفعيل أيديولوجياته المتنوعة.
فمنذ حدوث الانتكاسات والهزائم في الحياة السياسية العربية، وفي طول وعرض الوطن العربي، ووصولها إلى القمم المأساوية الكارثية، التي وصلت إليها أوضاع الأمة عبر العشر سنوات الماضية، اقتنعت والتزمت مجموعة من أولئك المثقفين العرب، لا بالتخلي عن عقيدتها القومية العروبية الوحدوية فقط، وإنما أيضا، وبصورة غريبة، بالإصرار على الدخول في مماحكات لفظية مهينة مع كل من بقي متمسكا بتلك العقيدة القومية، فكرا وآمالا وأحلاما مشروعة، وعلى الأخص لمبدأ ضرورة قيام نوع من الوحدة العربية، كطريق مضمون يؤدي إلى نهوض الأمة العربية من تخلفها ومهانتها وضعفها الحالي.

لا شيء يرعب الدوائر المعادية أكثر من توحد الأمة العربية في كيان قوي قادر على مجابهة أعدائه، ومحافظ على استقلاله الوطني والقومي

من التعابير المهينة التي يستعملها أولئك المثقفون ضد من يخالفونهم الرأي، وصفهم بأنهم واهمون يمارسون أحلاما وخيالا طفوليا، يتناقض مع واقع الحياة السياسية العربية، وهم بذلك، بقصد أو من دون قصد، يرددون التعابير نفسها، التي تستعملها الدوائرالإعلامية الاستعمارية ـ الصهيونية في محاربتها الدائمة لأي خطوة وحدوية عربية ولأي شعار أو تسمية وحدوية تساهم في بناء هوية عروبية مشتركة بين مكونات وجماعات الأرض العربية. المطلوب لدى تلك الدوائر هو مسح تعابير مثل الوطن العربي، من الذاكرة الجمعية العربية، ليحل محله الشرق الأوسط، أو المغرب العربي ليحل محله الشمال الافريقي، أو الصراع العربي ـ الصهيوني الوجودي ليحل محلُه النزاع «الإسرائيلي» ـ الفلسطيني، وغيرها من محاولات تدمير أو تشويه أو تقليل أهمية التاريخ العربي المشترك، والثقافة العربية المشتركة، والمصالح العربية المشتركة في كل ساحات التكامل العربي الضروري. فلا شيء يرعب تلك الدوائر أكثر من توحد هذه الأمة في كيان قوي واحد قادر على مجابهة أعدائه، ومتمكن من المحافظة على استقلاله الوطني والقومي، ويحمل في داخله إمكانيات التنمية الإنسانية الشاملة. لنعد إلى تلك القلة من المثقفين العرب، لنؤكد أننا لسنا ضد حريتهم في اختيار العقيدة الأيديولوجية التي تروق لهم، حتى لو خالفناهم الرأي، وناقشنا ذلك الرأي معهم بموضوعية وهدوء، ومن دون مماحكات لفظية، ولذلك نطرح على أنفسنا جميعا بعض الأسئلة.
في موضوع الأمن العربي: هل هناك قطر عربي في الوقت الحاضر غير مهدد في أمنه، إما من دولة غير عربية في إقليم الشرق الأوسط، مثل الكيان الصهيوني التوسعي، القائل علنا أنه يهدف إلى أن يكون القوة المهيمنة على كل دول الشرق الأوسط، وعلى الأخص الدول العربية ، أو مثل إيران التي تفاخر بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية، أو مثل تركيا التي تتحرك في الشمال الشرقي السوري والشمال العراقي وفي ليبيا مؤخرا، أو حتى مثل الحبشة التي تهدد مخططاتها مصدر الحياة المائية للشعب العربي المصري، وإما من دول خارجية طامعة في ثرواته ومواقعه الجيوسياسية مثل أمريكا أو روسيا؟ في هذه الحالة من هم الواهمون والخياليون الطفوليون: الذين يصرون على إبقاء كل قطر عربي، في ضعفه ومحدودية إمكانياته العسكرية، مسؤولا لوحده عن أمنه المهدد، أم الذين ينادون بنظام أمني عربي واحد مشترك، غير مظهري، يقف في وجه كل تلك الأخطاء، ويضمن الاستقلال والأمن الوطني والقومي؟
لنطرح سؤالا آخر: في حقل بناء تنمية إنسانية شاملة، وفي قلبها الموضوع الاقتصادي والسوق المشتركة، والتكامل العلمي والتكنولوجي والمعرفي، هل يستطيع أي قطر عربي، مهما كان حجمه أو غناه الريعي، أن يستغني عن ضرورة وجود كتلة اقتصادية مترابطة ومتناغمة ومتكاملة، وسوق عربية كبيرة لأربعمئة مليون من البشر، وهل يستطيع أي قطر الانتقال إلى اقتصاد إنتاجي حديث، لا يصنع البضائع الاستهلاكية فقط، وإنما أيضا التصنيع العالي المنتج للآلات والتجهيزات، التي بدورها تنتج البضائع الاستهلاكية الضرورية، والذي بدوره يحتاج إلى مراكز بحثية كبيرة متخصصة، ومتناغمة في إجراء البحوث العلمية والتكنولوجية، التي تغني عن الاعتماد على الخارج، والاستمرار في تمثيلية شراء العلم والتكنولوجيا من الخارج، واستيراد القوة العاملة الفنية من الخارج أيضا… هل يستطيع أي قطر عربي أن يقوم بكل ذلك لوحده؟ أليس لنا في السوق الأوروبية المشتركة مثالا يحتذى من قبل العرب؟
هنا أيضا، من هم الواهمون الخياليون الأطفال؟ ومن هم العاقلون الذين يدرسون الواقع ويقترحون الحلول العربية الذاتية، وليس الحلول المعتمدة على موائد الخارج غير الموثوقة من جهة، وغير المضمونة في الاستمرار من جهة أخرى؟
اوردنا المثلين، وهناك العشرات من الأمثلة الأخرى، لنقول لنا جميعا: دعنا من المماحكات والعنتريات السياسية العبثية ولنمارس النقاش الهادئ الرصين، خصوصا بعد أن ساهمت تلك المماحكات في ما بين المثقفين في خلق أجواء توترية وتلاسنات مفرقة في شبكات التواصل الاجتماعية العربية، وهو ما تريده وتخطط له دوما دوائر الاستخبارات الاستعمارية والصهيونية.
كاتب بحريني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية