أثار مونديال قطر مسائل سياسية وثقافية شديدة الحساسية، ما جعله، إلى حد كبير، الحدث الكوني الأكثر إثارة للجدل. واندلعت فيه، بعصبية مناسبة لكرة القدم، سجالات تتعلق بكثير من أيديولوجيات الحاضر: الإسلام المعاصر؛ ما يسمى «استشراقاً»؛ القومية العربية؛ القضية الفلسطينية؛ المثلية الجنسية؛ مسألة المهاجرين إلى الدول الغربية، ونزوحهم العكسي إلى منتخبات بلدانهم «الأصلية»؛ الصراعات العرقية في جنوب شرق أوروبا؛ الانتفاضات الإيرانية ضد حكم الملالي. يصعب أن نجد «قضية» لا يمكن إدراجها في قائمة سياسات المونديال.
يبدو المونديال بحد ذاته إذن أشبه برد ساخر على طرح عتيق يُنسب إلى بعض اليساريين: «كرة القدم إلهاء للشعوب عن قضاياها». ربما كان العكس صحيحاً، فالكرة تذكّر بـ»القضايا» لدرجة مثيرة للقلق في بعض الأحيان. كثيرٌ من البلدان قد تشهد أعمال شغب واشتباكات، تبدو عبثية إلى حد كبير، بعد مباراة كرة قدم.
قد يكون هذا متوقعاً، فمن الصعب إيجاد مجال مليء بالرموز أكثر من كرة القدم، خاصة في مسابقاتها الدولية. يوجد دائماً بلد مضيف، بتاريخ وثقافة ونظام سياسي معيّن؛ منتخبات تحمل أعلاماً وطنية، مكوّنة من لاعبين لهم سمات عرقية وثقافية وطبقية واضحة؛ وجمهور، من النساء والرجال، يحضر المباريات كي يَنفَعل أساساً، وهو يشاهد مواجهة بين فريقين من الذكور المتحفّزين، وبالتالي فالترميز الثقافي والتاريخي والسياسي، يتفاعل على مستوى أكثر المشاعر أوليّة: الفرح والغضب والخوف والاشمئزاز. ولذلك فإن سياسات كرة القدم قد تكون خطيرة للغاية.
رغم هذا فإن «عصبية» المونديال الحالي تُبدي بعض الاختلاف عن عصبيات ما سبقه من مناسبات كروية، إذ تظهر في مواطن لا تحتمل بطبيعتها العصبية: التضامن مع المثليين جنسياً مثلاً قد يأتي بنتيجة عكسية، إذ طُرح بوصفه «عنجهية» لاعبين ألمان في مواجهة مضيفيهم العرب؛ كما أن فريقاً فرنسياً، يثير كثيراً من النقاشات حول أصول وعرقيات لاعبيه، ربما ليس أفضل نصير لسياسات الاندماج على النمط الجمهوري؛ فضلاً عن أن الاستفزازات المتبادلة في مباراة صربيا وسويسرا، لن تكون عاملاً مساعداً في تقريب الصرب من «الفكرة الأوروبية». في ما مضى كانت عصبية كرة القدم تُستثمر، أو تروّض وتنظّم، في المكان المناسب و»الصحيح»: إقامة روابط اجتماعية متينة؛ أو دمج مجموعات متباينة، لكن عبر إعلاء منطق «الفريق» على فردانيات وهويات لاعبيه؛ وأحيانا تنظيم المباريات «الودّية» التي يُرتّب كل ما فيها للدلالة على الصداقة، أو نسيان الخلافات بين بلدين. يدفع هذا للتساؤل عن أنماط العصبية في المونديال الحالي؟ لماذا تبدو الاستقطابات أشد، فيما استثمارها السياسي أقلّ اتقاناً؟ هل يدلّ هذا على تسييس متزايد للكرة، أم على نزع سياسيتها؟
عصبية بلا مجتمع
ربما يجب النظر في طبيعة المتعصّبين لرمزيات المونديال، هؤلاء غالباً ليسوا جانباً من حركات شعبية أو أحزاب سياسية، أو حتى اتباع منظّرين قوميين. معظمهم ممن يمكن تسميته «الجمهور الافتراضي» أي المعلّقين الكُثر على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يلفت انتباههم، فجأة، رمز متداول عن طريق كرة القدم. يغضبون، يتشاجرون، ويستخدمون كل ما يملكون من عنف رمزي، لينالوا ممن يزعجونهم على مواقع التواصل. وغالباً ما ينسون بسرعة «التريند» الذي أثار انفعالاتهم، ويتعلّقون بتريند جديد. وبما أن متعصّبي وسائل التواصل لا يتّبعون جهة مركزية، مثل حزب أو نقابة أو حتى دولة، فإن انفعالاتهم «حرّة» غالباً، يمكنهم أن يلغوا الآخر عبر «بلوك» سريع، دون نتائج مؤثّرة فعلياً على ما ينشرونه لاحقاً، ويشعرون بالإطراء من التعليقات المؤيّدة التي يتلقونها، الصادرة من أشخاص انتقوهم وأعطوهم فرصة التماهي مع مواقفهم. إن نزلوا إلى الشوارع، وأثاروا شغباً، فغالباً ما يدركون، متأخّراً، أنهم تورطوا بأفعال لها نتائج أكثر جدّية مما كانوا يتصوّرون. لا يعني هذا أن كل أعمال الشغب يثيرها جمهور افتراضي، لا يدري ما يفعل، لكن يشير إلى أن جانباً مهما من العصبيات المعاصرة نتيجة «دوائر معقّمة» يصطنعها مستخدمو وسائل التواصل، عبر الإمكانيات التقنية المتوفّرة لهم على الإنترنت. في هذا المعنى فإن عصبية كرة القدم المعاصرة قد لا تكون مشكلة، تفرضها القومية أو الطبقية أو حتى الطائفية، بقدر ما هي نتاج انفعالات «مستخدمين» أفراد ووحيدين، يتعرّفون لأول مرة، دون خلفية تعليمية كافية، على كثير من الرموز المُتداولة في عالمهم.
يعيد هذا طرح قضية ما يسمى «العلامات اللافتة للانتباه» وهو تعبير متداول في الدراسات السيمولوجية المعاصرة (علم العلامات ودلالتها) ويعني أساساً اعتماد وسائل التواصل المعاصرة على رموز محفّزة لانفعالات بشر، منفصلين عن السياقات الثقافية والاجتماعية العميقة لتلك الرموز. يمكن مثلاً لشابة أو شاب غربيين، لا يعرفان شيئاً عن المجتمعات الإسلامية وثقافتها، أن يعتنقا الإسلام، وربما ينتسبان لتنظيمات إسلامية متطرّفة، بناء على «علامات لافتة للانتباه» تلقياها من وسائل التواصل، وهو أمر أول من ناقشه الباحث الفرنسي أوليفييه روا في كتابه الشهير «الجهل المقدّس» وقبل أن ينتشر تعبير «العلامات اللافتة» أكاديمياً. المهم هنا هو انفكاك الرمز، عن سياقه الثقافي المترسّخ، وإمكانية تسويقه ونشره دون حدود، أي «تحرير» العلامة من البنى التي انتجتها، وتحويلها إلى سلعة، هذا، بحسب التعبير الذي ندين به لكتاب روا، أكبر منتج لـ»الجهل» في زمننا، وبالتالي فإن عصرنا هو عصر عصبيات بامتياز، لكنها عصبيات غير اجتماعية، تختلف بشدة عن العصبيات القومية والطبقية والثقافية، التي صلّبتها كرة القدم سابقاً. وبالعودة للمونديال فإن التوظيف السياسي فيه، الذي يمكن وصفه بغير المتقن، قد يكون مجرد نتاج للمنظومة المصدّرة للعلامات اللافتة للانتباه: سيعود اللاعبون الألمان إلى بلدهم، بعد خسارتهم، لينسوا العلامة التي اصطنعوها (إغلاق أفواههم بأيديهم دعماً للمثليين) التي صنعت «التريند» لأيام معدودة، ويغرقوا في تريندات جديدة، فيما سيتنقّل اللاعبون الفرنسيون، من عرقيات «مهمّشة» بين عالم الدعاية والإعلان ومجتمع أصحاب الملايين العالمي تارة؛ والتصريحات المثيرة لانفعالات «أبناء جلدتهم» الأقل حظّاً تارة أخرى، حسب «التريند». ما مدى خطورة كل هذا على السلم الاجتماعي؟
في ما مضى كان يمكن ضبط العصبيات بشكل من الأشكال، تبرز دولة، حزب، شخصية مرجعية، تحاول أن تروّض ردّات فعل الجموع الغاضبة، وتدفعها للجنوح إلى السلم. اليوم، مع تفتت المجتمع المنتج للعصبية، يصعب التعويل على حضور من يلعب هذا الدور.
حدود التريند
في ما مضى كان يمكن ضبط العصبيات بشكل من الأشكال، تبرز دولة، حزب، شخصية مرجعية، تحاول أن تروّض ردّات فعل الجموع الغاضبة، وتدفعها للجنوح إلى السلم. اليوم، مع تفتت المجتمع المنتج للعصبية، يصعب التعويل على حضور من يلعب هذا الدور. رغم هذا فالتريند محدود بطبعه. «المحاولة الانقلابية» التي قام بها أنصار ترامب في أمريكا مثلاً، مقتحمين البيت الأبيض في سابقة خطيرة، لم تخلّف أي نتائج سياسية أو تنظيمية يمكن الحديث عنها، وكأنها محاكاة ساخرة لتاريخ الانقلابيين الدموي حول العالم. مَن لا يتعرّض اليوم، من أنصار اقتحام «الكابيتول» لعواقب قانونية وخيمة، انشغل على الأغلب بتريند جديد. سينسى الناس قريباً الجدالات التي خاضوها في المونديال، مهما بلغ تطرّفهم فيها. وقد يكون من الطريف أن يعود المرء، بعد أشهر قليلة، إلى ما كتبه في أيام المونديال، ربما أول ما سيشعر به هو الغربة عن نفسه: هل أنا فعلاً الأحمق الذي كتب هذا الهراء؟
ذوات الغربة
شعور الغربة، الموصوف أعلاه، ليس عارضاً، بل ربما كان شرطاً بنيوياً لعصبية «التريند». يسخر كثيرون اليوم من مسيّسي الأجيال السابقة، الذين ظلوا لعقود على موقف واحد، يتذكّرونه بكل حنين، وربما ستسخر الأجيال اللاحقة من متعصّبي اليوم، الذين لا يلازمون مواقفهم المتشنّجة لأكثر من أيام معدودة.
تمنع «العلامات اللافتة للانتباه» البشر من أن يكوّنوا ذاتيات مستقرّة، وتنزع توطينهم عن كل سياق يتمتع بشيء من الاستقرار، ولذلك من الطبيعي أن ينتقلوا من عصبية إلى عصبية، دون أن يشعروا بمدى فداحة تناقضاتهم. اغتراب هذا النمط من الذاتية شديد التعقيد، إنه اغتراب لا يثير أسئلة عقلية وأخلاقية، لأن الإنسان ينسى أصلاً مواقفه السابقة، وقد لا يذكّره بها إلا إمكانية تقنية، تصطنعها وسائل التواصل، عندما تعرض له من أرشيفها منشوراته القديمة، في محاولة أخرى للفت انتباهه، وابقائه «على اتصال».
ما النتائج السياسية لكل هذا؟ سؤال شديد الصعوبة. وربما كان طرحه خاطئاً أصلاً في الشرط الحالي. «التريند» في النهاية مجموعة من البيانات، يمكن جمعها وتحليلها من قبل مختصي «الداتا» وهؤلاء يقدّمون نصائح وتقارير لـ»صنّاع السياسات» الذين هم بدورهم مجموعة من المديرين والخبراء، يستفيدون من قاعدة البيانات الضخمة المتوفّرة لهم، ويخططون على أساسها. قد تكون هذه هي المحصلة المخيّبة للمشروع العقلاني والسياسي للحداثة، أما ردود الفعل عليها فلا يمكن توقّعها. قد تكون انفجاراً لعنف غير مسبوق، وغير «حضاري» أو نشوء منظومات اجتماعية جديدة. في كل الأحوال محاولات التكهّن الآن لن تكون إلا نوعاً من «الخيال العلمي».
كاتب سوري