بات موضوع الانتخابات وحل الميليشيات وسحب القوات الأجنبية على جدول الأعمال الدولي، وأحد مصادر الخلاف بين الفرقاء الليبيين.
انطلقت ليبيا في عملية إعادة الإعمار، التي ستشمل المدن الرئيسية، بعدما لحقتها أضرار جسيمة نتيجة الحرب الأهلية، التي استمرت سنوات، وكذلك جراء القصف المنهجي، الذي نفذه الحلف الأطلسي في 2011 مُستهدفا أساسا البنية التحتية. وقررت حكومة الوحدة الوطنية إنشاء صندوق سيادي بذمة مالية مستقلة، خاص بإعادة إعمار جنوب طرابلس وبنغازي ودرنة بشكل متزامن.
وقُدرت كلفة إعادة إعمار طرابلس بمليار دينار ليبي (223 مليون دولار) فيما سيُخصص مليار و500 مليون دينار (335 مليون دولار) لمدينتي بنغازي ودرنة في الشرق الليبي. وكانت أحياء طرابلس الجنوبية والشرقية هدفا لحملة عسكرية عنيفة قادها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بين الرابع من نيسان/أبريل 2019 والثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ما أدى إلى تدمير أحياء سكنية والإضرار بالبنية التحتية.
وفي خط مواز بدأ تنفيذ المرحلة الأولى من إعادة إعمار مطار طرابلس الدولي، الذي تعرض للتدمير في معارك بين ميليشيات الزنتان وطرابلس العام 2014 فتم تحويل الرحلات الجوية إلى مطار معيتيقة العسكري منذ ذلك التاريخ. وستقوم الهندسة العسكرية، في مرحلة أولى، بإجراء مسح شامل لأرض المطار، من أجل الكشف عن المتفجرات والألغام، تمهيدا لإعطاء الاذن من وزارة المواصلات لشركات البناء، لاستئناف تنفيذ العقود المبرمة مع الجهات المعنية بإعادة إعمار المطار.
وتتمثل إعادة الإعمار، بحسب مصادر حكومة الوحدة الوطنية، في إنشاء محطة للمسافرين وصيانة المهبط وساحة وقوف الطائرات وصيانة وتجهيز برج المراقبة الجوية وباقي المشاريع اللازمة لتشغيل المطار. غير أن عدة مخاوف ترافق هذه العملية، جراء الفساد الذي طبع صفقات إعادة الإعمار، وما زال يطبعها، ما تطلب إجراءات استثنائية لتعزيز الرقابة المالية ومنع اللجوء إلى إعطاء الرشى. وسيتولى الصندوق السيادي تأسيس ضوابط التعويض للمتضررين وآلية تنفيذها وسدادها، كما سيقوم باقتراح وسائل بديلة للتعويض النقدي «على أن يتم عرضها على مجلس رئاسة الوزراء لاعتمادها في وقت لاحق» بحسب المصادر الحكومية.
ويُعزى اللجوء لهذه الاجراءات الرقابية إلى الاتعاظ من تجربة ما سُمي بـ»لجنة إعادة الاستقرار» في بنغازي (تأسست في اذار/مارس 2019) التي عُهد لها بتنفيذ مشاريع عدة في وسط المدينة وضواحيها، لكن بعد مرور عاميْن لم تر النور سوى بعض المشاريع في منطقة الكرنيش، على الواجهة البحرية لبنغازي.
كوبيش ودي مايو
ومع أن عملية إعادة البناء في سبيلها إلى الانطلاق قريبا، ما زالت مخاوف كثيرة تحيط بها، وهي مخاوف لا تأتي فقط من الليبيين، وإنما أيضا من القوى الكبرى، إذ كانت الاستعدادات لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في كانون الأول/ديسمبر المقبل، محور اجتماع بين مسؤولين إيطاليين ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا يان كوبيش الأربعاء الماضي.
وأفادت مصادر إيطالية أن لقاء كوبيش مع وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو تركز على تنفيذ قراري مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 2570 (2021) و2571 (2021) بما في ذلك التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار، وسحب جميع المقاتلين الأجانب من ليبيا، وتطبيق خريطة طريق «منتدى الحوار السياسي الليبي» المؤدية إلى إجراء الانتخابات.
لكن دي مايو لاحظ أن «هناك الكثير الذي يتعين القيام به في أفق تنظيم الانتخابات» مُشيرا إلى العلامات غير المشجعة، مثل التأخير في اعتماد الميزانية الوطنية وتعثر فتح الطريق الساحلي بين سرت ومصراتة.
تحديات ينبغي مجابهتها
وعبر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس عن موقف مُشابه حين أكد، خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الإيطالي، أن هناك تعاونا وثيقا، بعد تعيين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، إذ «زادت فرص السلام، لكن هناك العديد من التحديات التي يجب مواجهتها والتغلب عليها، وهي انسحاب جميع المقاتلين الأجانب من ليبيا ووقف إطلاق النار وصولا إلى إجراء الانتخابات في 24 كانون الأول/ديسمبر» على ما قال ماس.
كما أن اهتمام أمريكا بالملف الليبي زاد أيضا في الفترة الأخيرة، إذ أن تسمية السفير ريتشارد نورلاند مبعوثا خاصا إلى ليبيا، بالإضافة لعمله سفيرا في هذا البلد، يؤكدان الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لـ»التواصل الدبلوماسي رفيع المستوى، من أجل دعم العملية السياسية الليبية» بحسب وزارة الخارجية الأمريكية.
طائرات شحن عسكرية
وما زال تدفق السلاح على الأطراف الليبية من الخارج، حتى في أيام عيد الفطر، مصدر انشغال للأوساط المؤثرة في المشهد الليبي، ومن المؤشرات على ذلك، الزيارة التي أداها كوبيش إلى مقر عملية «إيريني» البحرية لمراقبة السواحل الليبية، حيث تلقى إحاطة من الأدميرال الإيطالي أغوستيني تخصُ تنفيذ حظر على نقل الأسلحة جنوب البحر الأبيض المتوسط. والأرجح، طبقا لعمليات الرصد، أن طائرات شحن عسكرية تركية وروسية استمرت في نقل الأسلحة إلى الفريقين في ليبيا، على الرغم من القرارات الأممية في هذا المضمار.
وربما يُناقش هذا الموضوع في مؤتمر لوزراء الخارجية الأوروبيين في برلين في النصف الثاني من الشهر المقبل. ونقلت وكالة الأنباء الإيطالية «نوفا» عن مصادر بوزارة الخارجية الألمانية أنه من المقرر عقد مؤتمر وزراء الخارجية حول ليبيا، في برلين، في النصف الثاني من حزيران/يونيو المقبل. ومن المقرر أن تتعاون إيطاليا مع ألمانيا لتنظيم المؤتمر، ما يعني استمرار تراجع دور فرنسا، المشغولة بتحسين صورتها لدى بلدان الساحل والصحراء.
في السياق شدد كوبيش ودي مايو على «الحاجة الملحة إلى انسحاب سريع لجميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا، كما يطالب بذلك الشعب الليبي، وكما دعت إليه قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة».
خلافات بين الفرقاء الليبيين
هكذا بات موضوع الانتخابات وحل الميليشيات وسحب القوات الأجنبية على جدول الأعمال الدولي، إلا أنها في الوقت نفسه أحد مصادر الخلاف بين الفرقاء الليبيين، الذين أيد بعضهم إخراج جميع المسلحين الأجانب من البلد، فيما استثنى البعض الآخر قوات الدول التي أبرمت اتفاقات عسكرية، مع حكومات ليبية شرعية، وبالأخص تركيا.
وتركزت السهام في الفترة الأخيرة على وزيرة الخارجية والتعاون الدولي في حكومة الوحدة الوطنية، نجلاء المنقوش، التي حضت على إخراج جميع القوات الأجنبية من ليبيا، بمن فيها الأتراك. وتصدر تلك الحملة رموز الإسلام السياسي في ليبيا وخارجها، فيما اتهمها رئيس الأركان العامة في حكومة عبدالرحيم الكيب (2012) اللواء يوسف المنقوش، بأنها من أكبر الداعمين للجنرال خليفة حفتر. إلا أن اللواء المنقوش، الذي طالب بعزلها، نزه في الوقت نفسه، والدها الدكتور محمد المنقوش من التهم التي وُجهت إليه بالتعامل مع نظام معمر القذافي، مؤكدا أنه كان «من أكبر المعارضين للجان الثورية (حزب القذافي) ولم ينتسب يوما إليها» بل ظلت اللجان الثورية في مستشفيات وكلية الطب ببنغازي «تُحاربه، حتى أخرجته من الكلية، مانعة إياه من التدريس، كما كان من أكبر الداعمين لثورة 17 فبراير 2011 منذ البداية» على ما قال رئيس الأركان الأسبق.
الأولى منذ العهد الملكي
وظهرت آثار ذلك في مستوى الاستقبال الذي حظيت به الوزيرة، من المسؤولين المحليين، أثناء زيارتها لمدينة القطرون في الجنوب الليبي، وهو الإقليم الذي أفلت من رقابة الدولة منذ سنوات. واعتُبرت تلك الزيارة الميدانية، الأولى في نوعها إلى المنطقة، منذ العهد الملكي. وقامت المنقوش أيضا بجولة تفقدية إلى معبر التوم الحدودي مع النيجر.
على صعيد آخر تعزز الانفراج بإطلاق 78 معتقلا ومحتجزا لدى الميليشيات في طرابلس، بمناسبة عيد الفطر. وأتت هذه الخطوة، بحسب وزيرة العدل في حكومة الوحدة الوطنية، حليمة عبد الرحمن، في إطار مشروع المصالحة الوطنية، مؤكدة أن الصراع يعرقل المصالحة، وأنه لذلك يجب أن تتجه النية نحو العفو والتصالح. وحضت على البدء سريعًا في مشروع العفو والمصالحة تحت شعار «المصارحة والمصالحة». كما حضت على أخذ كل الإجراءات الضرورية لوقف الاختراقات، وإنهاء السجون الخارجة عن القانون، واحترام قرارات النائب العام. وفي الإطار نفسه أعلن المجلس الرئاسي الإفراج في منطقة الشويرف، عن 35 محتجزا من الطرفين المتصارعين في حرب طرابلس، العام الماضي، وهما ميليشيات الجنرال حفتر وما يعرف بقوات «بركان الغضب» بعد جهود تواصلت لأشهر طويلة. ودلت عمليات التبادل والافراج على جدية العمل الذي تقوم به اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» التي يُرجح أنها سترتب عمليات مماثلة في المستقبل».
حكومة بلا أظافر
غير أن حكومة الوحدة ما زالت لا تملك مخالب ولا أنيابا لفرض إنهاء تلك الاختراقات، إذ أن نواة الجيش الوطني ما زالت في طور التدريب.
لكن الغريب أن وزيرة العدل وجهت الشكر إلى «ميليشيا الردع» التي كانت تحتجز المعتقلين في سجونها بطرابلس، على «تعاونها» وحضت إياها على «الاستمرار ومتابعة كل التجاوزات التي قد تكون فردية وتقويمها واستمرار التدريب على احترام القانون وحقوق الإنسان». فمن غريب الأمور أن وزارة العدل، المؤتمنة على تنفيذ القانون واحترام الحقوق، تشيد بإحدى الميليشيات وتُؤكد في الوقت نفسه، أنها تعمل على إرساء دولة المصالحة والعدل، وفق قولها.
انفلات أمني
في الواقع ما زالت يد الدولة مرتخية، والجريمة في تصاعد وظروف العيش عسيرة على السواد الأعظم من السكان المدنيين. ومن الأمثلة على ذلك سكان منطقة وادي عتبة، القريبة من سبها عاصمة اقليم فزان، حيث قاموا أخيرا بوقفة احتجاجية على الاعتداءات المتكررة جراء الانفلات الأمني، إذ تعرض أبناء المنطقة للسلب والخطف والابتزاز، خصوصا من داخل مدينة سبها والطرق المؤدية لها، وإطلاق وابل من النيران عليهم. وعزا سكّان المنطقة، ما يتعرضون له إلى التهميش المسبق من قبل الدولة لمنطقتهم، و»إهمال البنية التحتية والخدمات الصحية والأمنية».
بهذا المعنى تظل العقبات الأمنية والسياسية، فضلا عن الوضع الاقتصادي الصعب، تُعطل المضي نحو تنفيذ بنود خريطة الطريق التي صيغت في مؤتمر برلين مطلع العام الماضي، وليس مستبعدا أن يتم اللجوء لتعديل بعض بنودها في مؤتمر برلين2 الشهر المقبل.
اذا كانت برلين راعية!!!