في لقاء مع القراء، في أمسية حضرتها مؤخرا في الشارقة، وكانت من أجل الحوار المباشر مع الكاتب، الذي من المفترض أن يكونوا قد قرأوا له شيئا، أو على الأقل يعرفون طريقته في الكتابة، كان ثمة سؤال أعتبره مهما للغاية: هل يضع الكاتب في ذهنه شريحة معينة من القراء وهو يكتب نصه؟ بمعنى هل يدرك الكاتب أو يتعمد أن يكتب نصا سهلا أو معقدا، من أجل قارئ موجود في ذهنه، ويتوقع أن يصل النص إليه؟
صراحة لا أعرف الإجابة على وجه التحديد، فلطالما كانت الكتابة نتاجا لشيء من الوعي واللاوعي، والكاتب في الغالب لا يدرك تماما ماذا كتب قبل أن يعود إلى نصه ويراجعه ويضيف إليه، أو يحذف منه، لذلك لن نقول إنه كان يستهدف قراء يافعين، حين كتب هذه الرواية، وقراء مخضرمين، حين كتب تلك الرواية الأخرى، وما يكتبه القراء في موقع مثل (غودريدز)، هو انطباع عن قراءاتهم ليس إلا، أي أن القارئ المخضرم أحس في نص ما لكاتب يعرفه، أن ثمة سهولة غير معتادة، وافترض أنه لم يوجه ذلك النص له، وإنما لقراء أقل استيعابا، وهكذا يحدث مع نص آخر.
حقيقة حين تمضي سنوات في الكتابة المستمرة، يكتسب الكاتب تلك البصمة، أو السمة التي تتضح في كتابته، غالبا يصبح أسلوبه واحدا، مع اختلاف الأفكار والمعالجات طبعا، مع كتابة كل نص. هذه البصمة التي تحدثت عنها كثيرا، والواضحة جدا عند كتاب مثل ماركيز وكونديرا، وأمين معلوف مثلا، تمنح المبدع تميزه، وهذه يدركها القراء المحنكون، وحين يجدون نصين مختلفين في مسألة السهولة والتعقيد، لكن بالأسلوب نفسه، لن يستغربوا، ولكنهم سيرددون ما يردده الكاتب نفسه، بأن كل نص له ظروف معينة، تأتي به، تختلف عن نص آخر، بظروف أخرى.
الأفكار تقريبا واحدة، ومعظمها مطروق من قبل من يمتهنون الكتابة، فقط تأتي تلك المعالجة الأسلوبية لتفرق الأمور، كما ذكرت. قصة الحب مثلا، إنها قصة الحب نفسها التي عاشها قيس، وعاشتها ليلى، ويعيشها الناس يوميا في كل زمان ومكان، وكتبت عنها آلاف القصائد والروايات، ولكن كلما قرأت قصة حب، لن تقول، إنها تلك الفكرة المعروفة، بل تبدو لك فكرة جديدة تماما، بناء على صياغتها الجديدة، قطعا العاشق يرتدي في كل نص، مفرداته الخاصة، والمعشوقة تزهو بتفاصيل لم تذكر من قبل، أو ذكرت، ولكن بأسلوب مختلف.
وحين كنت أكتب «366»، التي استوحيتها من قصة واقعية حدثت في مدينة بورتسودان آخر سبعينيات القرن الماضي، لم يخطر ببالي قصص العشاق التاريخية المعروفة، إنها قصة رومانسية، مؤلمة إلى أقصى حد، ربما يشبه بطلها أولئك التاريخيين البؤساء، لكن قطعا ليس مثلهم، والفتاة التي كتبت لها رسالة العاشق، كانت هنا أشبه بخيال، بعيد، غير موجود تماما. خيال تحيط به الأحداث وتطارده، ولا يظهر فيها. لذلك لم أجب على السؤال بصراحة، فكرت بأن أقول إن المسألة ليس فيها استهدافا لقارئ معين، لكن أيضا أحسست بأن من طرح السؤال وكثيرين غيرهم، لن يقتنعوا، خاصة أن هناك فروعا في كتابة الرواية، يعرفها الجميع، وهذه تدل على استهداف القارئ، فحين نقول رواية لليافعين مثلا، فنحن نعني أولئك اليافعين، وتوجد في أوروبا روايات موجهة للكبار، أي أن فيها فقرات لا تصلح أن يقرأها مراهق أو طفل، وهناك أيضا أدب خاص للمثليين لا يقرأه غيرهم. سؤال آخر في الأمسية نفسها، وهو سؤال مشروع بلا شك، خاصة أن الكتاب هم في الأول قراء قبل أن يصبحوا كتابا: هل يستمتع الكاتب بنصوصه بعد أن ينجزها؟، أي هل يقرأها بحياد ويستمتع أو يضجر منها؟
نعم، معظم الكتاب يطالعون نصوصهم بعد أن تنشر، ويضمها كتاب، يمسكون بالكتاب بين أيديهم، ويحاولون الانغماس فيه، ولا شك يستمتعون ببعض ما كتبوا، وقد يملون من البعض، وبمرور الزمن وعند العودة لرواية قديمة، كتبت منذ سنوات، قد يجد الكاتب وبحياد تام، عيوبا في الكتابة، وفقرات لا بد من ملئها، ولا أستحي حين أقول إنني أقدمت مرتين على هذه الخطوة، مرة ذكرتها، ومرة لم أذكرها، وأحسب أنني حسنت فعلا من نصي حين أعدت كتابته.
على أن هناك من لا يقرأ أعماله أبدا بعد نشرها، ويعتبرها أمرا تم تجاوزه، ومرة قرأت حوارا مع كاتب أمريكي، قال إنه لم يحدث أن قرأ رواياته المنشورة، ولا حتى امتلكها في بيته، وبالنسبة للمراجعات التي يكتبها القراء والنقاد، هذه أيضا لا يقرأها، ولا يهتم بها. وأظن أن هذا خوف غير مبرر، أن تكون فيها عيوب أو نواقص قد تقلل من قيمتها عنده، ولذلك يفضل أن تظل هكذا بعيدة عنه.
السؤال الأخير المهم، وهو مسألة تغيير العناوين للروايات المنشورة حين إعادة طبعها، هل هذا أمر مشروع؟ وهل تنبغي الإشارة إليه؟ ولماذا أصلا يتغير عنوان نص؟
نعم، الأمر يبدو مزعجا فعلا، ومن المفترض أن العنوان الذي صدر به الكتاب، يظل هكذا حتى لو طبع عشر مرات، لكن الذي يحدث أن ثمة حوارا يدور بين الكاتب والناشر الجديد، الذي يرى ضرورة تغيير العنوان لدواعي الدعاية والتسويق، وأنه أكثر ملاءمة من العنوان الأول، ولو اقتنع الكاتب، فلا بد من الإشارة إليه، حتى لا يظن القارئ أن العمل جديد، وهذا ما حدث عندي في رواية «تعاطف»، التي أصبح اسمها «حارس السور»، ولا أحس بأنني خدعت أحدا، فقد أشرت إلى ذلك.
هكذا أجبت على هذا السؤال، ودائما ما أستفيد من مثل هذه الأسئلة، وأرى أن القارئ الحقيقي، مرشد كبير للكاتب.
كاتب سوداني