يقول نجيب سرور في ديوان «بروتوكولات حكماء ريش»1978: «الحق أقول لكم، لا حق لحي إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات.. وإذا كان عذاب الموتى أصبح سلعة أو أحجبة أو أيقونة، أو إعلانا أو نيشانا فعلى العصر اللعنة والطوفان قريب».. كلمات قاسية ولكنها حاضرة في الكثير من الكوارث، خاصة حين يكون الثمن المدفوع هو الإنسان، وربما حين تكون السلعة مجرد تذكرة قطار، والأكثر حين تكون اللحظة عابرة مثل كل الأحزان التي عبر عنها نزار قباني بصورة رائعة في قوله: «ما للعروبة تبدو مثل أرملة، أليس في كتب التاريخ أفراح؟»، وكأنه يعبر عن واقعنا حيث الكارثة تفرز أخرى والتكرار سيد الأحوال، والألم العابر يتراكم في البعض ويتجاوز عنه البعض وسط تفاصيل الحياة.
رغم هذا يبدو الموت الحقيقي وكأنه غير قادر على تحريك الجموع، وإشعال الغضب مقارنة بالقطط الميتة، وربما كل الأشياء الميتة الأخرى مهما كان حجمها، ما دامت لا تخص البشر وأحوالهم، وما دام يتم الإلقاء بها على المائدة ويسهل خوض معركتها على وسائل التواصل الاجتماعي، والساعات الممتدة من البث والكتابة، حتى كارثة جديدة وإلهاء جديد لا ننتصر فيه لمعركة ولا نحسم جدلا له أهمية ما، لأننا لا ندخله من البداية من أجل النقاش، ولكن بحكم القط الميت وقواعد الإلقاء به، والعصفور الطائر الذي يجب البحث عنه والغضب الذي تتم تغذيته من أجل توزيع الجميع إلى مع وضد، لأن «أنتو شعب وإحنا شعب» تحولت إلى جزء من آليات الحكم وضرورات البقاء. وكما تبدأ القضية فجأة تغلق فجأة حتى يحتاج الساحر للعودة إلى الجراب والبحث عن القط أو الطائر المطلوب، حسب الكارثة ومتطلباتها.
تغيب قضية الأمطار والموت الناتج ليس عن الأمطار فقط، بقدر ما هو ناتج عن الفساد الذي أدى إلى تحويل أعمدة الإنارة إلى خطر قاتل، وكل البيانات المتكررة بشكل سنوي عن الاستعدادات لموسم الأمطار والسيول، التي لا يحاسب عليها أحد ولا على الأموال التي تعلن بوصفها نفقات على تلك البنود، ولا على الطرق التي سقطت في اختبار الأمطار، مثيرة الكثير من التساؤلات عن آليات التنفيذ والرقابة والمحاسبة. وكما غابت الأمطار وسط أخبار الكوارث في العالم، وتوجيهات غير دقيقة بالضرورة، رأت أن الحل هو بقاء الجميع في المنازل بدون مراعاة لظروف تلك المنازل وقدرتها على تحمل الأمطار وحماية من فيها في الأيام العادية، قبل أن تكون قادرة على تحقيق هذا في الأزمات، إلى جانب أوضاع البنية التحتية في العديد من المناطق التي جعلت المنازل والشوارع خطرا للبعض، وليس العكس، في وقت تغيب فيه تجهيزات التعامل مع الأزمات، والمناطق المخصصة للتعامل مع الكوارث بأنواعها، والقادرة على استقبال المواطنين عندما يكون البقاء في المنازل مهددا للسلامة، التي تتواجد في العديد من دول العالم، حيث تسير الكوارث مع طرق وآليات التعامل معها، وليس مع خطاب الاستهلاك المتكرر الذي لا يحد من آثار الكوارث ولا يزيد من عوامل الحماية.
لم يحاسب أحد على موت بسبب الفشل أو الفساد تحت الأمطار، قبل أن يصدمنا القطار رقم 934 جميعا وهو يمر على الوطن مرة أخرى
لم يحاسب أحد على موت بسبب الفشل أو الفساد تحت الأمطار، قبل أن يصدمنا القطار رقم 934 جميعا وهو يمر على الوطن مرة أخرى، ولكن بصورة مختلفة عن مرات سابقة، شهدنا فيها حوادث كان القطار شريكا فيها، خاصة عندما اصطدم فيها مع مركبات أخرى منها تلك التي تحمل أطفال مدارس، مخلفا الوجع الذي لا يغيب، والمحاسبة التي لا تتحقق، وأهمية المواطن التي تظل مهمشة وثانوية. جاء القطار ومعه رائحة من قطار الصعيد المحترق عام 2002، وعبارة السلام 98 عام 2006، رغم اختلاف عدد الضحايا والتفاصيل، وفي الخلفية مركب رشيد عام 2016 وفتاة مجلس الوزراء في 2011 وسؤال «أيه اللي وداهم هناك» بعد أن دخل شباب من الباعة الجائلين إلى عربة مخصصة للتذاكر المميزة بدون تذاكر. اختلاف يعود بدوره إلى عمق الجرح، رغم قلة الضحايا بشكل عددي، وربما بسبب تعامل السلطة مع الحدث، الذي أعاد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك إلى الواجهة مع خطاب «خليهم يتسلوا» الذي ظهر في أيام حكمه الأخيرة، وقبله طريقة تعامل النظام مع عبارة السلام أو الموت، بدون احترام لقيمة الإنسان التي دشنت نقطة فارقة في حكم مبارك، قبل أن تعيد الأحداث تأكيد الحضور في سياق مختلف ومقارنة أخرى. عكس الحدث الكثير من التفاصيل والتساؤلات عن الحياة والموت، عن الوطن والأمان، عن الإنسان والإنسانية، وكأننا نعيد اختراع أبجديات غائبة أو مغيبة، ومعها تساؤلات الصدمة عن ما الذي حدث وكيف ومتى؟ّ ربما لا يعرف أحد تفاصيل الإجابة، وربما تكون أقصر الطرق إلى التفسير تلك التي تربط بين سلوك محصل القطار «الكمساري» وخطاب وزير النقل الذي هدد فيه بفصل من يتساهل مع الركاب بدون تذاكر، بطريقة تقدمه بوصفه صاحب الدولة ومواردها، وليس مجرد موظف عام يمارس دوره وفقا لقواعد وقوانين، وقبله خطاب الرئيس عن توحش الدولة بوصفها دولة من يملك ويستحق، وتصور أن من لا يملك ليس له حقوق أو «اللي معهوش ما يلزموش» كما يقال، في مغالطة من شأنها انتفاء أسس بقاء واستمرار السلطة التي لا تنطلق من الإنسان ولا تراه بوصفه الأصل الذي لا يقارن بالعاصمة الجديدة وأشجارها ومبانيها الضخمة، ولا تخير المواطن بين صور الموت والمعاناة وهي ترى أن الأموال المفترض تخصيصها للإنفاق على إنشاء شبكات الأمطار غير مبررة، في ظل قصر مدة سقوط الأمطار سنويا، لأنها وبعيدا عن حقيقة تجاوز الخسارة المترتبة عليها من البشر ومواردهم القليلة التي قد تمثل كل ما لديهم، تتجاوز عن حقيقة غياب الرشادة في سبل الإنفاق، ولا تطرح السؤال نفسه عن ضرورة إنشاء عاصمة إدارية وعاصمة صيفية وأكبر مبنى وأطول برج، في وقت هناك أولويات يتم التجاوز عنها، ومعاناة يتم تضخيمها، وديون لا تتوقف عن التوالد هي وفوائدها، وفقر لا تتم مواجهته، وشركات تخسر الكثير من قيمتها، وأصول تضيع من الأجيال الحالية والقادمة.
مع اشتعال الغضب من الكمساري والركاب، وربما الحاجة إلى مواجهة الذات ومحاسبة النظام، الذي أدى إلى توحش الدولة والسلطة ممثلة بالكمساري، الذي طالب كل من محمد عيد «الضحية» وصديقه بالقفز وامتثالهما لتوجيهاته، لأنه وكما قال النائب العام في بيان إحالته إلى محاكمة جنائية عاجلة «من رجال السلطة العامة (التي) يلتزم الناس بأوامره، وأن قوله يجعلهما يقفزان من القطار»، كانت الساحة مهيأة للإلقاء بكل القطط الممكنة، لأن المطلوب هو خطاب الإنجازات، وخطاب التفويض ومشتقاته وما يترجم إليه من غياب المسألة والمحاسبة وبهذا كان سقوط قط جديد ضروريا من أجل تحويل اتجاه الجدل عن القضايا الأساسية، وعن شهيد الشهامة الأول والثاني، وعن شهيد التذكرة وتوحش الدولة، وعن شهداء الأمطار والفساد، وعن القصور الرئاسية والمحاسبة الغائبة، وجاء القط سريعا في صورة الجدل حول الشيخ محمد متولي الشعراوي. وبغض النظر عن تفاصيل ميلاد الأزمة والعمدية في نشأتها، أو تصعيدها من عدمها، يظل التعامل معها مثاليا، حيث يتفرغ الجميع في قضية مهما كانت لا يتصور أنها من أجل تحسين أوضاع أو إصلاح دنيا أو دين. مجرد فرصة لا يهم إن كانت فستان ممثلة، أو تعليقا على شيخ أو انشغالا عن الثورات بالسيدات المشاركات فيها، أو غيرها من القضايا والتفاصيل، المهم هو إلهاء الجميع خارج النقاش الدائر، والابتعاد عن القضايا الجوهرية إلى التفاصيل التي تصب فقط في مصلحة الفساد والسلطوية والتدهور المستمر في الأوضاع. ولكن تلك المرة لا يكرر الرئيس أن من يغضب، أو لا يعجبه عليه أن «يتسلى» كما قال مبارك، ولكن عليه أن «يتفلق» وهو تطور مهم في تفاصيل خطاب السلطة، وجرأة إهانة الشعب، سواء أكان معارضا متكلما أو صامتا أو مجرد متضرر من كل تلك المعاناة، التي يفترض أن يرحب بها ويشكر على طريقة الثلاجة الفاضية. لم تعد القضية هي تجاهل من يعترض أو يطرح تساؤلاته عما يحدث، ولا أن يترك للتسلية وكأن ما يفعله لا يهم ولا يؤثر، ولكن علي من يتكلم أن يعرف أنه بلا قيمة ولا تأثير، وأن ما يحدث هو أيضا تحد لخطاب النقد ومطالب الديمقراطية، وهو ما يبرر بسهولة مقولة «أه، أنا بنيت وببني وهبني» تعليقا على القصور الرئاسية. كان على المشهد أن يكون محملا بكل تفاصيل الألم، حيث القتيل الذي شارك صديقه في كوب شاي واحد، ولم يكن معهم أكثر من ما يقارب 2 دولار، يقام له عزاء يليق بحضور وزير وكاميرات تحاول إثبات إنسانية وغسل يد الجميع، في تجسيد لكيف يمكن أن توضع الورود على قبور لم يحتج أصحابها إلا إلى لقمة العيش والكرامة في الحياة، وكيف يسهل أن تدين الضحية، بدون أن تسأل عن مسؤولية الدولة في دفع هؤلاء إلى أسفل القائمة، وعدم توفير فرص عمل لائقة ودعم لمن يحتاج، قبل ان تحاسبهم على الفقر ومحاولة البحث عن معنى للحياة.
تعيد تساؤلات القطار والوطن عمق معنى قصيدة «أولا جاءوا» للقس مارتن نيمولر للواجهة، حيث أن مشاهد اليوم ضحية الغد والدائرة تدور، تتسع وتضيق، والجميع مصاب، سواء من تأثر أو من لم يتأثر في اللحظة، من غضب، ومن برر ببساطة لأن قوانين الغابة قد تعرف الاستثناء البسيط لكنها لا تعرف التعميم، وبمجرد أن تفرض قواعدها يصبح الجميع ضحايا، والكل مهدد. بمجرد أن تتجاوز المحاسبة في اللحظة تضع نفسك في خطر تطبيق القواعد نفسها عليك، أو على من يخصك في المستقبل، بمجرد تبرير غياب القيمة الإنسانية تسمح بأن تكون رقما آخر محتملا أن ينضم إلى القائمة، أكانت دائرة الفقر والمعاناه أو تبعاتها. دائما ما نقول ضع نفسك موضع الآخرين، حاول أن تتصور الألم حتى تستحضر الإنسان، ولكن حتى الكمساري وجد أنه أعلى من هؤلاء الشباب بوصفه السلطة، مؤكدا في رده على الضحية عندما طالبه بأن يتعامل معهم، أو ينظر إليهم مثل أخواته، بأن أخواته لا يركبون القطار. ورغم أن الأخبار لم توضح إن كان رده نابعا من تصور أن القطار أقل شأنا من أن يركبه أشقاء الكمساري، أم أنه قصد مقارنة اللحظة وغياب التذاكر، تظل الفكرة قائمة وهي غياب أبسط قواعد التعامل الإنساني القائم على أن تضع نفسك أو شخصا عزيزا أو قريبا موضع الآخر، وقواعد الحكم عبر تنفيذ القواعد والقوانين، وأن السلطة ترى نفسها فوق المواطن المطحون مهما كان ممثل السلطة نفسه مطحونا وفي أسفل سلم هيراركية المناصب. هناك توحش تولده السلطة وينتقل إلى الأفرع، وما حادث القطار إلا صفارة استغاثة قبل المزلقان الأشد خطرا.
بدوره وعلى طريقة «أولا جاءوا» يقول عبد الرحمن منيف: «العذاب الحقيقي هو أن نعيش في الوهم، نفترض أننا مادمنا خارج السجن، فنحن أحرار ونظل في هذا الوهم إلى أن يطبق الفخ على أقدامنا، وعندها نندم لأننا لم نفعل شيئاً، ليس فقط لئلا ندخل السجن، وإنما لأننا لم نفعل ما يجب علينا لكي لا يكون السجن أصلا»، وبالطريقة نفسها هناك السجن وهناك الموت من أجل الشهامة، ومن أجل تذكرة، وهناك السجن عندما تتوحش السلطة وتعامل البشر حسب من يملك ومن لا يملك، وتفترض أنها صاحبة الوطن وأن الجميع ضيوف. هناك سجن يفترض ألا يوجد، لكنه يتوغل في تفاصيل الحياة ولا يتوقف لأن لا أحد يوقف القطار الذي يأخذ الجميع بدرجات وصور مختلفة، ولكننا ندفع جميعا الثمن لأنهم عندما جاءوا في المرة الأولى لم نوقفهم وتصورنا أن السجن لم يصل لنا بعد.
كاتبة مصرية
غش/نفاق موظف النظام البيروقراطي، خلف قتل الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية في أي دولة، هو أول ردّة فعل لي على عنوان (تساؤلات القطار والوطن) يا د عبير ياسين، والأهم هو لماذا؟!
ولذلك الحل يجب أن يكون من بناء نظام تعليمي يُنتج موظف بضمير إنساني في كيفية أداء أي وظيفة،
لو أردنا شيء يختلف عن ردّة فعل وزير النقل المصري، كما ظهر في عنوان أكثر من رائع (بعد هجوم إعلام النظام عليه.. وزير النقل المصري يتعهد بتأليف كتاب عن «وطنية وإخلاص السيسي») لأنّه يلخص مفهوم الولاء في عقلية موظف العالة/الآلة في دولة الحداثة،
انعدام الحس أو الضمير الإنساني، في أداء أي وظيفة لزيادة الإيرادات في دخل الدولة، حسب تعليمات الرئيس،
كما ظهر مع من ليس لديه أجرة ركوب القطار في وزارة النقل المصرية، بعد استلام الآلة العسكرية لها.
والتي لذلك ظهر غضب الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية عليها، في أرجاء سوق العولمة والإقتصاد الرقمي الإليكتروني حول العالم، من الصين في آسيا وحتى تشيلي في أميركا الجنوبية عام 2019.??
??????