كل البلاغة العربية تفسد عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الصهيوني ومسمياته الكثيرة التي لا تدل على حقيقته الاستعمارية، ولا على عدوانيته الاستيطانية القبيحة. تسميات أفرزها الوعي السياسي العربي الذي بدأ يتكوّن في أوائل القرن العشرين، عندما تحلّلت الإمبراطورية العثمانية العتيقة التي حكمت العالم العربي قروناً. وأياً يكن شأن هذه التسميات فإنها غدت، اليوم، من مخلفات التاريخ الغابر، ولم تعد مناسبة للتعبير عن الوضع الفلسطيني المأساوي نتيجة الاستعمار الصهيوني المريع. لقد حان الوقت للتنديد بتلك الصِيَغ الفاسدة، لا اللغوية فحسب، لكن الاعتبارية، أيضاً. وهو شيء مهم إذا أردنا أن نخرج، اليوم، من شَرَك التاريخ الآخذ في خَنْق الفلسطينيين وتشريدهم .
نحن لا نجهل أن ذلك الوعي كان مرتبطاً بمرحلته التاريخية. لكن التاريخ ليس قيداً. ولا يحق لأحد أن يمنعنا من تغيير تاريخنا عندما نستاء منه، وبالخصوص، عندما يتحوّل إلى فَخّ. التاريخ تصنعه الكائنات. وعندما لا يعود ملائماً لوجودها، لها الحق في أن ترفض بنوده، وأن تتمرد على قيوده، خاصة إذا كان قد فُرض عليها بالقوة والخيانة، كما هي الحال في فلسطين. ولكي نفهم مسار الاستعمار الصهيوني الذي نتكلّم عنه، علينا ربطه بتاريخ الاستعمار الأوروبي العام، دون أن ننْسى أن أمريكا، نفسها، هي صنيعة الاستعمار الأوروبي المتوحش الذي بدأ بنهب العالم منذ عام 1492، عام سقوط الأندلس، الذي كان في نهاياته أوائل القرن العشرين، عندما زرع في قلب المنطقة العربية استعماراً جديداً، سمّاه: «إسرائيل». بهذه الفعلة الشنيعة والغادرة كان الاستعمار الأوروبي يطمح إلى أن يجعل من المنطقة العربية الغنية بالشمس والماء والنفط والتأخر والجهل «ضاحية أبدية» من ضواحي أوروبا. ولكي يضمن السيطرة على تلك «الضاحية العظمى» قام بتجزئة العالم العربي الغني بالموارد والتاريخ والإثنيّات إلى دويلات متنافسة ومتناحرة، بشكل يمنع أياً منها من أن تنهض، أو أن تستقل بذاتها، خارج منظومة «الشمس الأوروبية» التي بدأت تلك الدول المستحدثة تدور في فلكها على الفور. لكن «دوائر التاريخ» السود المظلمة لا يمكن أن تكون مغلقة، تماماً، وهو ما يترك المجال مفتوحاً، دائماً، للنفاذ منها نحو النور، كما فعلت، وتفعل، المقاومة الفلسطينية، منذ عقود. تسمية الأشياء بأسمائها، في هذه الحال، هي خطوة أولى نحو التحرر من الأوهام. إنها شكل من أشكال وعينا بالعالم.
«إسرائيل» إذن، هي «الاستعمار الصهيوني لفلسطين» تحديداً، واسمها ليس «الدولة العبرية» ولا «الكيان» ولا «الاحتلال» ولا.. أي شيء آخر. إنها استعمار مكتمل الأركان. يؤمن بالتوسّع والعنف والإبادة أسلوباً ومنهجاً وسلوكاً. ويتخذ من الدين ذريعة. والدين ليس صكاً عقارياً. والرُسُل ليسوا متعهدي دول، ولا مخططي ممالك ومناطق وإدارات. وأساطير الأولين ليست حقيقة نهائية، ولا هي براهين تاريخية، لا تدحض، وبالخصوص عندما يتعلّق الأمر بالاستيلاء على أمكنة الآخرين، وقتلهم، وتشريدهم. لكل أرض حقيقتها. وحقيقتها هم سكانها. وسكانها هم ما يؤمنون به. وما يؤمن به الفلسطينيون هو: «التحرر من الاستعمار».
«كل شأن هو ضرورة» كما يقول ابن عربي، وبالتالي كل قول أو فكر هو ضرورة، أيضاً. وهو ما يدفعنا لأن نعترف بأن «التسلّط الداخلي» في بلداننا هو حليف أكيد للاستعمار الصهيوني، مهما حاولنا تدليس ذلك. نحن مستعمَرون بعمق. لا الحداثة خلصتنا من الاستعمار المعرفي، ولا السلطات حررتنا من الاستعمار الجغرافي، ولا الصلح والتطبيع حرّرانا من غواية الاستعمار الصهيوني الجَشِع. على العكس من ذلك، أصبح المتصالحون معه، والمطبعون، دون أي تمييز بينهم، عملاء مشهودين لهذا الاستعمار، ومن دُعاة قبوله والتعايش معه. وهو أمر ضد الطبيعة، وضد إرادة الشعوب، وضد التاريخ. والمثقفون الذين، بدلاً من أن يكونوا التمثيل الأسمى لضمير العالم، صاروا يتغالبون زاحفين نحو جوائز دول التطبيع السخية، هم عملاء لعملاء الاستعمار. لا نستثني منهم أحداً، أيضاً. الأدبُ لا يبرر السياسةَ، أيا كانت المقولات، عندما يتعلق الأمر بالموقف من الاستعمار وعملائه. ولا عذر لمبدع يتجاهل روح الشعب، ويتغاضى عن حقائق التاريخ، ويموّه الوقائع، ويستسلم للحِيَل والأكاذيب.
أخيراً، تسمية الأشياء بأسمائها قد ترسم خطوطاً واضحة بين منْ هم معنا، ومَنْ هم مع الاستعمار وعملائه. نحن لا نلوم أحداً يريد أن يكون عميلاً بإرادته. هذا ليس شأننا. نحن نسمي الأشياء بأسمائها، ليكون كل شيء واضحاً وصريحاً. ولا بأس من الإلحاح على المسائل المصيرية التي صارت تقتضي منا أن نقلب الصفحة، صفحة التيار المهادن للاستعمار في الفضاء العربي. وأن نقلب الصفحة معناه أن الوضع العربي القائم الآن هو وضع تراجيدي وخطير ولا خير فيه. ودون هذا «القَلْب» كلنا هالكون.
كاتب سوري