تسونامي الكلام الموسمي

كل متكلم للسان هو مجبر في أشياء ومخير في أخرى، هو مجبر على استعمال ألفاظ بعينها عليها مواضعة الجماعة اللغوية، وليس لأحد أن يبدلها من تلقاء نفسه؛ وهو مجبر على أن يستعمل بنى اللغة الاشتقاقية والصرفية والإعرابية، ولا يبدل فيها شيئا؛ وهو مجبر على أن يناسب بين المَقامات والمقالات، فلا يمكن أن يقول صباح الخير يا عيني، إلا لمن أمكن له أن يقولها له. لكن المتكلم مخير في أن يبني من الأفكار ما يريده بالشكل الذي يراه مناسبا، وهذا يظهر لنا حين نصف مشهدا واحدا بطرق مختلفة.
في أنشطتنا الكلامية نحن قدرية، أحيانا نقدر أفعالنا بأنفسنا، ونحن أحيانا أخرى جبرية مسيرون سلفا بأفعال الكلام المسطرة في ألواح لغتنا المحفوظة. من أوجه أمور الجبر في كلامنا أن نجد أنفسنا ندور في مواسم معلومة من الكلام تأسرنا، ولا نغادرها، لكن هل للكلام مواسم مثلما للأفراح وللأتراح مواسم؟
يعني الموسم، مناسبة يجتمع فيها الناس لأداء نشاط معين بهذا المعنى كان للفلاحين مواسم مثل موسم الحصاد في بلاد الحنطة وجني الزيتون في بلاد الشجر الذي لا هو شرقي ولا غربي.. وبهذا المعنى كان للمتعبدين مواسم مثل موسم الحج في ديانتنا؛ وفي عصر الغلال الطازجة غير المثلجة، كان هناك موسم لكل غلة: موسم للعنب وآخر للبرتقال وثالث للرمان فيه تجنى هذه الغلال وتباع وتؤكل، لكن هذه مواسم لا يوازيها في الغالب كثير من الكلام هي مواسم تمر وكفى لا تفرز كلاما كثيرا. في حياتنا اليومية تحدث أشياء فتثير فينا كلاما تجعلك تسمعه وأنت في المنزل أو في الشارع، في القطار أو في المطار.. تلوكه الألسنة وأحيانا يطول الكلام ليصنع موسمه الخاص به.. مواسم الكلام تصنعها أحداث دولية أو محلية سياسية أو فنية أو رياضية؛ أحداث سعيدة أو شقية هذه المواسم قد تطول أو تقصر لكنها تسيطر على حوارات الناس، آخر أمثلتها كان مأساويا هو حديث الناس في بلادي عن فيضانات مدينة درنة الليبية، وقبلها عن الزلزال في المغرب الشقيق.. استطاع هذان الحدثان أن يصنعا موسم الكلام عن الطقس ومآسيه وعن التساؤل إن كان في الأمر شيء مدبر ودسائس، أو هو قضاء من الله أو قدره وعبرة وأين هم المعتبرون؟
موسم الكلام ليس فقط كلاما واحدا في موضوع واحد يستمر زمنا ويسير على الألسن ويتناوله الناس بالتفصيل والجدل الطويل، مواسم الكلام هي أيضا ضرب من المعجم الثابت يكرر، وضرب من الأفكار النمطية التي يتقاسمها الناس تجعل المتكلمين يقعون في أسر المكرر، الذي لا يقلق غير من سئم التفكير داخل النمط.
بالإضافة إلى مواسم الكلام المشتركة، هناك مواسم فردية للكلام تكون نتيجة لأحداث سعيدة أو مأساوية تحدث للفرد فيشاركه البقية التهاني أو التعازي وينخرط كل من هنأ وعزى في نسق من الكلام مكرر مجتر، ينبغي أن يعاد خضوعا للسنن الثقافية والدينية والاجتماعية فينجم عنها ضرب من اللوك اللغوي الإجباري.
من مواسم الكلام الفجائية موسم النعي، هو موسم يكثر فيه الحديث عن موضوع واحد، عن الميت والموت وإرادة الله، والصبر والجلد، والرحمة والمغفرة، والبكاء والفراق والحزن، وذكرى الميت وخصاله وآخر أقواله وبساطة سعادته وشقائه وبكائه ووفائه، ويغيب عن موسم الكلام هذا الحديث عن المال إن كان الميت فقيرا.
موسم الكلام الناعي يجعلك تنخرط في ضرب من السرد التكراري، الذي يلقى على مسامع مختلفة تعيد الكلام نفسه جوابا على السؤال نفسه، ولكنك تروم أحيانا أن تنوع التكرار. في موسم الكلام كما في موسم الحج أو جني الزيتون يكون النشاط واحدا، ولكن التنويع يكون على الخلافي. من حسن الحظ أن هناك أسئلة مخالفة للمكرور تريحك. الحديث عن أخلاقه حديث مكرر والحديث عن طيبته حديث مكرر، والحديث عن الصبر لفقده حديث مكرر، ولكنك تشعر وأنت تكرر الكلام، بأنك موزع بين واجبات الكلام في هذا المقام، كالعبارات الجاهزة أو المألوفة التي ينبغي أن تقال في أمثال هذا المقام، والبحث عن نسق جديد من الكلام ردا على أسئلة مَلُوكَة.
مواسم الكلام تندلع حين يكون هناك شيء من خارج يحدث صدفة أو استعدادا حين يأتي الموت – وهو حتمي لا محالة – يأتي موسم الحزن الكبير الذي عليك أن تعالجه بالكلام، في موسم الحزن الكبير يأتي الكلام من خارج ويأتي الكلام من داخل. كلام الخارج عادة هو كلام يلقيه الناس أمامك للواجب، في مواسم الحزن يصبح الخارج مطلوبا، ويضيق أو يتسع باتساع الكلام ومن يقوله. الخارج في موسم الحزن الكبير هو شخص أو أشخاص يأتون من أجل العزاء، وكلما كثروا رحبت الدنيا وصرت شيئا فشيئا في أنس مع من يطلبك حتى لو كنت تراه عدوك. مواسم الكلام في خريف الأحداث تغير الأوراق لا توزيعا فقط، بل ماهية: يكفي أن يرتمي الشخص في حضنك ويوشوش في ثيابك التي لم تغيرها من مدة بكلمات بسيطات تسري في الروح وتطلب قرارها. لمواسم الكلام أيضا داخل هو داخلك الذي تكتشفه من جديد وداخل غيرك الذي يفيض عليه كلامك ويصف داخله باختلاف. الداخل مربك حين تتكلم أنت وتكون طرفا في المأساة، ماذا ستقول والكلام قليل ولا ينفع.. والداخل مربك أيضا حين يتكلم غيرك ولا تجد في كلامه ما تبحث عنه.. وحدهم أصحاب التجربة يعرفون كيف يجعلون الداخل، داخلك، أقل توترا وأكثر قبولا للأمر ويجعلون داخلهم صافيا شفافا يدعوك إلى أن تسكن فيه. حين يموت قريب تجرب ما معنى أن يموت أحدهم بدلا منك.. الحديث عن موت قريب يجعلك في تجربة قريبة أو في مسار تجرب فيه موتك الأبيض: موتك الذي تمثله وأنت تتحدث عمن مات وهو قريب.
في مواسم الكلام عن السعادة يكون الأمر مختلفا: أنت تجرب وأنت تتكلم نشوتك وانتصارك وزهوك وعنفوانك. في موسم الحب الذي قد يمر بنا هو أيضا بلا ميعاد لأنه يأتي متى يريد، نحتفي بـأنفسنا بالكلام ويصبح خارجنا ملغى وندخل معا أنا ومن أهوى في داخلنا المشترك الذي عليه أن يضيق بكل الكون إلا بنا. إذ يقول الأثنولوجي وعالم النفس جيزا روهيم (1891-1953) Geza Rohéim: «تنبعث اللغة من الفم، لذلك يجب أن تنبثق من المرحلة الشفهية من الرغبة الجنسية وتنظيم الأنا. ومن الواضح أيضا أن اللغة تساعد على التفاهم بين شخص وآخر، وأن النموذج الأولي لجميع العلاقات بين الأشخاص هو وضعية أم – طفل». لكأن ممارسة الكلام والكشف عن الهوى والبوح بما يضني هو نوع من الشبقية الأولى، التي بدلا من أن يضع فيها الطفل الإصبع في الفم شبقا يضع اللسان في الفم ويحشوه كلاما من النشوة والهوى، وكأنه يستعيد لحظته الأولى مع أمه الأولى. حين تتكلم في مواسم الحب تتحول الكلمات إلى عوالم يشتهيها سامعها ويحلم بأن تكون على الهيئة التي رسمتها تلك الكلمات: لم يكن نزار قباني على حق حين قال: (كلماتنا في الحب تقتل حبنا // إن الحروف تموت حين تقال). لا يمكن أن تقتل الحب غير الكلمات التي تريد أن تقتله.
في مواسم الكلام يصبح الكلام أداة لخلق توازن مهتز: هزه الموت إذ توقف نبض القلب أو هزه العشق إذ اشتد نبضه أكثر حتى لكأنه يتوقف. المواسم بلا كلام تفقد الإنسان توازنه والكلام وحده يريد لو يعيد للتوازن أنساقه القديمة لكن حين يأتي موسم وتعيش خطاباته بتفاصيلها من الصعب أن تعود إلى توازنك القديم، ستكون مجربا للحس وللمغامرة ومجربا لنوع من الخطاب لم تألفه من قبل وصرت خبيرا به. ليس كل الناس متقن الحديثَ عن ذاته مكلوما أو سعيدا، مواسم الكلام تعلمنا كيف نفعل ذلك وعلى غفلة منا.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية