في التجربة السورية وغيرها، الجروح والرضات النفسية أقل ظهوراً من إصابات الأجساد، لكن أوسع انتشاراً وقلما تعالج. تنظر هذه السطور في سبل تعامل معافى مع هذا الجروح، تخرجها من مكنونات النفس الخفي إلى عالم السياسة، تسيسها كفعل مقاومة واعتناء بالنفس.
أول ما يلزم لتسييس التروما هو إدراك الصفة السياسية لتروماتنا أو جروحنا النفسية. جروحنا سياسية من حيث السبب، ومن حيث المسبب، ومن حيث كوننا نحن المجروحين سياسيين بصورة ما. سياسيون دون رغبتنا، وربما رغماً عنا، لكننا سياسيون بلا مهرب. السياسة التي لم يهتم بها أكثرنا اهتمت بنا كلنا. ونحن هنا اليوم نتكلم على تسييس جروحنا النفسية بفعل اهتمامها المؤسف. وما نتطلع إليه هو سياسة غير جارحة.
نجد السياسة في تجاربنا الجارحة، وليس في النظام الذي تنحل السياسة لديه في التعذيب والقتل كشرط حياة ودوام له، ولا عند الإسلاميين الذين تنحل السياسة لديهم في الدين، في صورة مجروحة ومريضة منه، وليس لدى المعارضة الرسمية التي خسرت استقلالها ونجحت في أن تلغي نفسها سياسياً.
لا نجد السياسة حيث يجري البحث عن السياسة، نجدها حيث لا يجري البحث: في مجال المعنى، أو بالتحديد في العلاقة بين المعاناة والمعنى. تسيسس الجرح بهذا المعنى هو تسييس المعاناة، هو التعبير عنها والكشف عن معناها.
يتضمن التسييس تبين الصفة العامة لجروح النفوس. ليست جروحنا نتاج أزمات نفسية تخصنا كأفراد، وإنما هي نتاج أوضاع سياسية جارحة ومؤذية، لحق أذاها ملايين السوريين بصورة مختلفة. العنوان العريض لهذه الأوضاع هو الحكم الأسدي في بلدنا.
وحدة المعنى والمعاناة هي ما تتيح امتلاك مجتمع المعاناة لتجربته، وتحول دون فرض معان خارجية على التجربة من جهة، ودون الحاجة إلى اقتراض معاناة من الغير. في جيل سبق، جيلي، فعلنا الشيئين معاً: اقترضنا معاني ومعاناة من غيرنا. لكن في جيلي كذلك أخذنا نقاوم ذلك، وأخذنا نطور معاني أوثق صلة بضروب المعاناة المعاشة في بلدنا.
اليوم لدينا فائض من المعاناة، وينبغي لسياستنا أن تعتني بتوليد معان فائضة منها.
وبقدر ما إن المعنى الصحيح للصراع هو ما يتصل بالمعاناة الفعلية، وليس باستيراد معان من الماضي، فإن في سياسة المعنى ما ينازع مسعى الإسلاميين لامتلاك صراعنا.
الربط بين قصتنا وقصص غيرنا من مجتمعات المعاناة، أو إدراج قصتنا في إطار أعم يتضمن قصصا غيرها. المهم أن نتوقف عن التفكير في سوريا كأنها كوكب منفصل عن غيره
علاقة المعاناة- المعنى ليست مباشرة. يساعدنا أن نعرف كيف مثّل غيرنا معاناتهم، كيف ولدوا المعاني. غيرنا ممن مضوا وغيرنا من المعاصرين. هذا جانب معرفي- تشكيلي من سياسة المعنى، ضاع بقدر كبير من سياساتنا من عقود. وهو يطل على ما يسمى التراث، المتاح البشري من طرق تمثيل الواقع.
قبل هذا الجانب المعرفي، هناك جانب التعبير، ترجمة التجارب إلى أفكار، أو الكلوم إلى كلمات.
التمثيل هو العملية الفكرية التي توحد الجانبين التعبيري والتشكيلي.
خسرنا معركة التمثيل السياسي التي نتكون فيها كمواطنين، لكن نستطيع تمثيل تجاربنا، تحويلها إلى أفكار ومعان وصور، تبني قضية لنا وتخاطب غيرنا.
نتكون كقوة سياسية محتملة حين نولد المعاني من تجاربنا. حين نتكون كذوات لها معنى، تنظر في تجارب الفقد والاقتلاع والتغييب واللجوء والخسارة، وتعمل من أجل أوضاع متحررة منها.
إنتاج المعنى عملية سياسية وصراعية. فمن عملوا على تحطيمنا يعملون على تحطيم معنانا، وعلى رواية القصة على نحو ينكر أن لنا قضية. وبالعكس، نحن نعمل على رواية قصة معاناتنا وعنائنا على نحو يظهر النظام كقوة شر أنانية، غير وطنية، وبلا قضية عامة، أي بنزع المعنى عنه. الصراع من أجل المعنى هو أحد أوجه تمثيل الذات.
وليس في سياسة المعنى ما يتناقض مع سياسة الفعل، القائمة على التنظيم والعمل على تغيير الواقع، لكنها تبدو وقتياً على الأقل أكثر ملاءمة في شروط الشتات.
وهذا لأن ما في الشتات، الأوروبي بخاصة، من فرص وأخطار، ما تصلح سياسة المعنى للتعامل معها. الفرص هي فرص تعلم أفضل مما كان متاحاً لنا في بلدنا، وتحسن قدرتنا على توليد المعاني وعلى التعبير غير المراقب المولد لأفكار جديدة. والأخطار تتصل بنسيان تجربة المعاناة وإدارة الظهر لمجتمع المعاناة المحطم، والذوبان في المجتمع الجديد.
هذا فضلاً عن النجوع العلاجي. من شأن تسييس جروحنا، وضعها في سياقات عامة، ووضع سياقنا العام ذاته في سياق عالمي، أن يساعدنا كأفراد على التعافي، وعلى أن نكون جماعة أو جماعة، تتعرف في الترومات التي خبرتْها على قصتها المشتركة.
في ألمانيا النازية، تحمل الشيوعيون معسكرات الاعتقال بقدر أفضل من غيرهم بفعل كونهم منظمين، يتبادلون العون، وبفعل قدرتهم على إضفاء معنى على معاناتهم. من عانوا أشد المعاناة ولم ينجوا هم من لم يفهموا لماذا هم موجودون هناك، من لم يستطيعوا استيعاب الصدمة وتجاوزها.
في تجربة جيلي، أسهم التنظيم السياسي والمعنوي في تحمل تجاربنا القاسية. التنظيم إطار لتبادل الدعم، يعطيك وجهة ويقلل من تشتتك. وقد تكون تجاربنا السابقة ساعدت في تحمل جروح لاحقة، نوع من التطعيم.
هناك جانب من سياسة المعنى ذي أهمية خاصة في الشرط الشتاتي: الربط بين قصتنا وقصص غيرنا من مجتمعات المعاناة، أو إدراج قصتنا في إطار أعم يتضمن قصصا غيرها. المهم أن نتوقف عن التفكير في سوريا كأنها كوكب منفصل عن غيره، وأن نرى بينما نحن متناثرون في العالم كم من العالم في بلدنا وفي مجتمعنا وحياة كل واحد وواحدة منا.
سنكون في وضع أفضل من أجل سياسة الفعل، وأوانها قادم، بقدر ما نطور سياسة معنى مثمرة، فننجح في تمثيل تجاربنا وإنتاج المعاني المتجددة من معاناتنا، ووضع قضيتنا في متناول عالم يبدو أنه متأزم أكثر وأكثر، ومحتاج لأن يبحث عن تمثيلات وحساسيات جديدة.
كاتب سوري
مقال مهم يسلط الضوء على الشتات الذي يجب أن ينتج الفعل الإيجابي.
من المؤكد بأننا بحاجة لخلق معاني متجددة وأهداف من معاناتنا الطويلة كسوريين وعرب، لكن وللأسف لا يستفيد العرب وأنا منهم من فضاء الحرية لخلق معاني متجددة تعيدنا للفعل الإيجابي في مجتمعاتنا. الغالبية تدير ظهرها لأوطانها وتعيش حياة إستهلاكية خارجة عن المعاني، تنعم بقشور الحياة في مجتمعات مستهلكة شبه خالية من القيم العليا التي عرفناها بنشأتنا بصرف النظر عن خيارات الأفراد يسارا أو يمينا. نحن هنا سلبيين غير فاعلين كما كنا في بلادنا. أقولها منذ عقود لأهل بلدي في المغترب: سننجح حين نكون متضامنين في قضايانا كتضامن أعدائنا ضدنا.
المشكلة مع السوريين في الشتات هي انقسام الاكثرية العام الى شبيحة او اخونجية كل حسب ظروفه واحيانا بدون قناعة والبقية لا تذكر مع الاسف,
“الربط بين قصتنا وقصص غيرنا من مجتمعات المعاناة، أو إدراج قصتنا في إطار أعم يتضمن قصصا غيرها. المهم أن نتوقف عن التفكير في سوريا كأنها كوكب منفصل عن غيره” اهـ
والمهم أيضا التوقف عن تلك المفاضلات والمزاودات العنصرية المحلية التي يتشبث بها الطغاة والكتبة أذنابهم والإمعات الانتهازيون الذين أطلق عليهم أحد الحكماء لقب “ناتفو حواجبهم” في اعتبار فلسطين قضية العرب المركزية رغم خضوعها لاحتلال واحد من جهة، وعدم النظر إلى سوريا حتى بصفتها (قضية) رغم خضوعها لأكثر من خمسة احتلالات لحد الآن !!!؟؟