العلمانية في أبسط تعاريفها هي “فصل الدين عن الدولة”، وقد ولدت على خلفية حروب كارثية شُنَّت تحت يافطات دينية مختلفة.
هذه الفصل يقتضي ألا يتدخل الدين في السياسة، ولا السياسة في الدين. غير أن ما هو شائع عن هذا الفصل هو أنه منع الدين من التدخل في السياسة، مع وجود تدخل مستمر من طرف السياسة في الدين، حيث تحاول التيارات المتطرفة علمانياً أن تحرم تدخل الدين في السياسة، ولكنها تتساهل إزاء تدخلات مستمرة للسياسة في الدين. ويفهم هذا المنحى في ضوء الصراع بين السلطة السياسية والمعارضة الدينية، حيث ترى السلطة أن تدخل المعارضة الدينية في السياسة يضر الدين والسياسة معاً، لكن تلك السلطة لا ترى ضرراً من تسييس المؤسسات الدينية في الدولة لصالحها.
وإذا كانت بعض التطبيقات العلمانية قد حددت بشكل واضح موقفها من تدخل الديني في السياسي، فإنها لم تكن على تلك الدرجة من الوضوح إزاء تدخل السياسي في الديني، وهو التدخل الأعم ، لأنه في الوقت الذي يتم فيها تجيير الدين لغرض ما فإن الطرف الذي يقوم بالتجيير يعد طرفاً سياسياً، حتى ولو كان مفتي الديار.
إن حصر فهم هدف العلمانية على أساس أنه منع تدخل الديني في السياسي، والتغاضي عن تدخل السياسي في الديني بعد ضرباً من التسييس للعلمانية، لخدمة أهداف لا تصب في مجرى الهدف العام المتمثل في جعل الدولة محايدة إزاء جميع الأديان والطوائف.
كما أن استهداف دين أو مذهب بعينه باسم العلمانية، يجعلنا نقف إزاء نوع من الانتقائية في التطبيقات العلمانية التي تنتهي إلى ضرب من تسييسها، حيث إن الإيهام بالانطلاق من منطلقات علمانية لإخفاء حقيقة توجهات دينية أو طائفية لا يعد سلوكاً علمانياً، ولكنه استعمال فاضح ليافطة العلمانية للتستر على حقيقة توجهات دينية أصولية متطرفة.
وفي فترات كثيرة انطلق كتاب علمانيون من منطلقات سياسية أو آيديولوجية أو دينية لانتقاد الإسلام أو التاريخ العربي الإسلامي، كما هو الحال بالنسبة لبعض الكتابات الاستشراقية، التي نجحت إلى حد ما في إخفاء توجهاتها السياسية أو الآيديولوجية أو الدينية باستخدام لغة حداثوية أو ومقاربات ومصطلحات شبه موضوعية، أو عناوين علمانية، لإضفاء نوع من المصداقية والنزاهة العلمية على كتابات التي لا تلبث أن تنكشف أهدافها غير الموضوعية عند القراءة المتأنية.
ما معنى غزو بلدان الشرق العربي من قبل بلدان علمانية، تحت ذريعة محاولات فرض الديمقراطية ولو بالقوة من طرف أولئك الذي يتحدثون عن انتشار الإسلام بحد السيف؟!
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال حقيقة أن الكثير من تيارات اليمين القومي/الديني في أوروبا والغرب عموماً تتدثر بالعلمانية لإخفاء حقيقة منطلقاتها الدينية في انتقادها للإسلام، حيث توفر العلمانية العنوان البراق الذي يحوي تفاصيل دينية، تراوغ لتخفي طبيعتها ومقاصدها، تماماً كما يراوغ ذلك الأنيق الذي يبدو بربطة عنق عصرية، ليخفي حقيقة “المسوح” التي يرتديها يوم الأحد.
كما لا يمكن مناقشة هذه القضية دون المرور على ثلة من “المفكرين” العرب الذين كانت لهم قصص أو معاناة شخصية في بلدانهم الأصلية، ثم جاؤوا إلى “عواصم العلمانية” لإفراغ شحنات من حقد مكبوت على مجتمعاتهم ومعتقداتهم الأصلية، فيما هم يظنون أنهم يمارسون قدراً من الموضوعية الأكاديمية في مقارباتهم التي لا يعدو الكثير منها أن يكون استجراراً عاطفياً لا تفكيراً علمياً.
ماذا يمكن أن يكون عليه تقييمنا لمفكر علماني وشاعر حداثي كبير بنى معظم جهوده النقدية – أدبياً وفكرياً وثقافياً – على نقد التراث العربي الإسلامي، بعد أن رأينا تنظيراته تتذبذب وهو يمتدح نظاماً دينياً ثيوقراطياً، يعد النسخة المعاصرة من الثيوقراطية الكاثوليكية في القرون الوسطى، وماذا ترك هذا الشاعر الكبير لشعراء المديح في الشعر العربي القديم، بعد أن مجد بقصيدة له رجل دين، كان ذات يوم على رأس هذا النظام الديني الذي يتبنى سلسلة من المصفوفات القادمة من بطون الكتب الصفراء والتواريخ القديمة الدامية؟
إن هذا النموذج من العلمانية يقع في إشكالية “أحادية الرؤية” التي يأخذها العلمانيون على “الإسلامويين”، بل والأدهى من ذلك أنه يجير العلمانية لخدمة توجهات دينية وطائفية، وهو ما يجعل تلك “العلمانية الانتقائية” لا تقف على مسافة واحدة من جميع المذاهب والأديان، ناهيك عن أن كثيراً من التيارات المعلمنة تمارس درجات متفاوتة من الإقصاء التي تتهم به الأصوليات الدينية.
وهنا يمكن أن يطرح سؤال عن معنى معنى تنظيم مؤتمرات دولية “ممولة” عن الإسلام والقرآن، ثم لا يدعى للمشاركة فيها إلا لون فكري معروف بمواقفه العدائية وطرحه المتطرف، وقراءاته الانتقائية للتاريخ والتراث العربي الإسلامي؟
وهل من الموضوعية أن تقدم هذه المؤتمرات الأكاديمية قراءات انتقائية مبتورة لخدمة أهداف وتوجهات سياسية بعيداً عن الأكاديمية التي تغلف بها هذه المؤتمرات الموجهة؟
ما معنى أن يتم التركيز اليوم على المخاطر التي تواجهها العلمانية بسبب الإسلام؟ ما معنى أن تدعم العلمانية إنشاء مدارس دينية غير إسلامية في بلدان أخرى، ثم تمنع توسع المدارس الإسلامية في بلدها، بحجة الخوف من نشر أفكار التطرف؟ وما معنى أن يذهب زعماء أحزاب كبيرة في دول ديمقراطية علمانية للكنيسة في ابتداء حملاتهم الانتخابية، ويعودون إليها في مستهل فترة حكمهم، في حين يقال إن المجتمعات الإسلامية تحتاج إلى جرعة علمانية لتحريرها من تدخل الإسلام في سياسات حكوماتها؟ ثم ما معنى أن تجوب الأساطيل “العلمانية” المياه الدولية والإقليمية محملة بأحدث أنواع أسلحة الدمار الشامل، ثم يقال إن الأصولية الإسلامية تسعى للسيطرة على أوربا وتغيير نمط حياتها العلماني؟ ثم ما معنى أن تمسح “القوات العلمانية” مدناً تعد حواضر الحضارة العربية الإسلامية تحت ذريعة الحرب على “الإرهاب الإسلامي” الذي لا يمكن أن يقارن الدمار الذي أحدثه بالدمار الذي أحدثته تلك “الحرب العلمانية” على الإرهاب؟ ثم ما معنى غزو بلدان الشرق العربي من قبل بلدان علمانية، تحت ذريعة محاولات فرض الديمقراطية ولو بالقوة من طرف أولئك الذي يتحدثون عن انتشار الإسلام بحد السيف؟
وما معنى نهب خيرات تلك البلدان تحت ذريعة “الدمقرطة”، التي تتم بوسائل عنيفة لا يقارن عنفها بالوسائل التي استعملتها عمليات “الأسلمة” التي تحاول تيارات العنف والتطرف اتباعها لفرض رؤيتها للإسلام على الآخرين.
كل تلك الأسئلة الإشكالية تثير مجموعة من الأجوبة التي لا يراد لها أن تكون واضحة للناس، لا لشيء إلا لأجل الاستثمار في اليافطات المرفوعة، لتحقيق أهداف مختلفة، وهنا يمكن أن نلحظ التطابق بين نموذجين انتهازيين: أحدهما يقوم على “تسييس الدين”، وهو الذي يتم الحديث عنه بشكل مستمر، والآخر هو القائم على “تسييس العلمانية”، وهو الذي لا يتم الحديث عنه إلا نادراً.
حضرت مؤخراً جانباً من فعاليات أحد هذه المؤتمرات “الأكاديمية”، وتحدثت إحدى الأوراق المقدمة عن الآية “ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المكر…”، لتخرج بقراءة غريبة لهذه الآية، تقول إن الآية تدعو إلى التجسس والتدخل في الخصوصيات، وأنها تؤسس للعنف ضد الأفراد والمرأة تحديداً، وأنها تعطي أياً كان الحق في ممارسة العنف ضد الآخر، متجاهلة حقيقة أن آية واضحة نهت قطعياً عن التجسس في النص “ولا تجسسوا…”، وأن الخطاب موجه بضمير الجمع “منكم”، وليس للفرد أو الأفراد، وبالتالي فإن المكلف بالأمر فيما يخص التغيير باليد الذي تحدثت عنه هو “السلطة التي تملك هذا الحق” والتي تمثل الأمة، وأن القوانين الحديثة في كثير من الدول ذات الدساتير العلمانية تهدف في الأخبر إلى ما عبرت عنه الآية من إرادة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهو مبدأ إنساني وقانوني عام، وإن اختلفت وسائل التعبير عنه، حيث يمكن أن تقوم القوانين وأجهزة السلطة القضائية والأمنية اليوم مقام ما عبرت عنه الآية بـ”الأمة” التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
بالمجمل، ينبغي للذين يحذرون من تدخل الدين في السياسة أن يحذروا كذلك من تدخل السياسة في الدين، وينبغي للذين يحذرون من تسييس الدين أن يحذروا كذلك من تسييس العلمانية، وهو الأشد مكراً والأخفى سبيلا.
٭ كاتب يمني
العلمانية هي شان داخلي في نظام الدولة ولا علاقة لها بالسياسات الخارجية للحكومات العلمانية فغزو العراق من قبل امريكا لا تقف العلمانية وراءه ولا غزو العراق للكويت باعتبار نظام صدام حسين علماني بنظر الاسلاميين سببه علملنية النظام واما الحالات الفردية للعلملنيين من الادباء والمثقفين عموما فيوجد بالمقابل منها حالات قام بها دعاة وشيوخ اسلاميين بمدح حكام هم بنظرهم علمانيين والعلمانية اساسا تختلف درجاتها بفصل الدين عن الدولة فدول العربية لا يمكن تسميتها بالعلمانية لانها بالاساس الفقرة الاولى في دساتيرها تنص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام وكل حكامنا يبداون حديثهم او خطبهم بالبسملة وثم اية قرانية او حديث نبوي فلهذا علينا ان لا نتحامل على العلمانية التي جاءت بحزب اردوغان للحكم في تركيا بينما لا يمكن ان يحكم اي حزب لا ديني في دولة مثل ايران او افغانستان حاليا
يا سلام على تخريجة…
عندما تغزو أمريكا العراق وتدمره فإن الأمريكيين لا العلمانية هم من غزا العراق، وفي حال الفتوحات الإسلامية فإن الإسلام لا المسلمون هم من غزا.
تناقض واضح
د. جميح بعد مقالك هذا انتظر علمانيي المعلقين الذين سيعتبرونك خلية إسلامية متطرفة نائمة!
معظم من يسمون أنفسهم علمانيين هم ابعد الناس عن فهم المصطلح نفسه و لذلك هم يهبدون و يخبطون خبط عشواء دون أدلة او علم بما يتكلمون و هدفهم الوحيد في الحياة هو النيل من الإسلام و الاستماتة في جعله ركيكاً بأية طريقة و مهاجمة أساساته و قيمه من خلال تكرار شبهات تأريخية و معاصرة حوله اشبعت بحثاً في تفنيدها و الرد عليها و إبطالها!
…
اما ذلك الشاعر اليساري الذي ذكرته يا دكتور في مقالك فهو حاله حال معظم يساريي العرب ما أن تدوس له على طرف حتى يتقيئ ما بداخله من عقد مذهبية و طائفية!
هل تعلم يا دكتور ان الأبيات التالية لهذا الشاعر و في بواكيره و الذي صدعونا دراويشه بوطنيته و حبه للعراق الذي ابى ان يكسر عينه فضمها كما تقول الاسطورة :
.
هي ” فارسٌ ” وهواؤها ريح الصَّبا …
وسماؤها الأغصانُ والأوراق
لي في العراق عصابةٌ لولاهمُ …
ما كان محبوباً الىّ عراقُ
لا دجلةٌ لولاهمُ ، وهي التي …
عذُبت، تروق ولا الفراتُ يذاق