تصد عاجل وآخر آجل للأزمة السودانية

الأزمة في البلاد بلغت الحلقوم، وما عاد الوطن يحتمل ذرف المزيد من الدمع على الدم المسفوح. ولسنا في حاجة لنكون أسرى للتوصيف والتحليل وتخيل السيناريوهات المختلفة، فقد فعلناها من كل الاتجاهات، وقتلنا القضية بحثا وعصفا ذهنيا ورسما للخيارات، عبر تدبيج ميثاق وراء آخر، رغم أن البلاد شبعت مواثيق وشعارات عامة، ومع ذلك لا بأس من الجديد الذي يخاطب المستجدات. لنتوقف قليلا ونلتقط أنفاسنا، ثم نقتفي أثر كل هذه المواثيق وتلك التحليلات، لا سيما أن جميعها يتحسس موضع الألم ويساهم في وصفة العلاج.
وفي هذا الصدد، نلاحظ أن هنالك قاسما مشتركا أعظم يتكون من ضلعين، تتسم به كل هذه المواثيق والمبادرات، حيث يتناول الضلع الأول ملامح منع تمدد إجراءات الخامس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول 2021 الإنقلابية، ويطرح عناوين البدائل المطلوبة لاستكمال الفترة الانتقالية مثل إلغاء كل القرارات التي صدرت بعد ذاك التاريخ، فض الشراكة المدنية العسكرية، إلغاء الوثيقة الدستورية المتوافق عليها في 2019 واستبدالها بوثيقة دستورية جديدة، أو دستور انتقالي، تؤسس لهياكل حكم انتقالي تعمل على تحقيق أهداف الثورة وانجاز مهام التغيير في فترة زمنية قدرها عامان قابلة للتمديد عبر المجلس التشريعي الانتقالي، وتعيين رئيس وزراء ومجلس وزراء من الكفاءات الوطنية المستقلة، تشكيل مجلس تشريعي انتقالي يمثل كل قوى الثورة الحية في الريف والحضر يلتزم بالتعدد الثقافي والإثني على أن تكون الغلبة فيه للجان المقاومة والأجسام الثورية، تشكيل المفوضيات القومية المستقلة لتتولى ملفات الانتقال الديمقراطي ولتعالج القضايا النوعية التي طرحتها شعارات وأهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول، إعمال العدالة والعدالة الانتقالية بما يحقق رد المظالم وعدم الإفلات من العقاب، تبني نظام حكم فيدرالي لإدارة الفترة الانتقالية بما يعزز من خيارات الوحدة الوطنية والمشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للثروة، إعطاء أولوية لإدارة ملـف السـلام عبر المفوضية المعنية التي سيتـم تشـكيلها على أساس الكفـاءة والنزاهة والقبـول الشــعبي على أن تتشكل من خبــراء التفــاوض وفض النزاعــات وإدارة التنــوع وقدامى العسـكريين ومختصي اقتصاديــات مــا بعــد الحــروب، قيام مؤتمر قومي للسلام يؤسس لحوار سوداني سوداني يشمل كل القوى السياسية والمهنية والمدنية والاجتماعية والأهلية ينطلق من داخل معسكرات النازحين واللاجئين والوحدات الإدارية والمحليات لمخاطبة قضية الحرب والسلام بشكل جذري، الشروع الفوري في إصلاح مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وكذلك إصلاح مؤسسات السـلطة القضائيـة والمنظومـة العدليـة، تبني برنامج اقتصادي وطني يوزان بين إدارة الدين العام وبين برامج التنمية الاقتصادية المبنية على حشد الموارد الداخلية، انتهاج سياسات خارجية متوازنة مبنية على المصالح المشتركة والبعد عن صراع المحاور، والتأكيد التام بأن الســودان دولــة وطنية ديمقراطية تقــوم فيهــا الحقـوق والواجبات علـى أسـاس المواطنـة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنـس أو اللـون، وكذلك العمل على تنظيم مناقشات ومؤتمرات قاعدية تتيح أكبر مشاركة شعبية وصولاً للمؤتمر الدستوري الجامع لوضع دستور يوضح طبيعة الدولة وهياكلها وطريقة إدارتها وممارسة الحكم فيها وإجازته عبر استفتاء شعبي.

التأكيد التام بأن الســودان دولــة وطنية ديمقراطية تقــوم فيهــا الحقـوق والواجبات علـى أسـاس المواطنـة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنـس أو اللـون

أما الضلع الثاني في هذا القاسم المشترك الأعظم الذي يربط بين كل المواثيق والمبادرات المطروحة اليوم في الساحة، فهو غياب الكيفية والآلية التي ستحقق الانتقال من الوضع الراهن إلى وضع جديد يعود بالفترة الانتقالية إلى مسارها الطبيعي نحو تصفية جيوب الانقاذ والتحول الديمقراطي، من خلال فعل عملي ملموس وقوده السلم وحقن الدماء والثقة في إمكانيات شعبنا، وينطلق كالسهم نحو الهدف المنشود لانقاذ الوطن ومنع انهياره. نحن على قناعة تامة بأن الوضع المأزوم الراهن في البلاد يتطلب علاجا على مرحلتين، مرحلة تدخل عاجل يتم فيها تفعيل الآلية الملائمة لتحقيق الانتقال من الوضع الشائه الحالي، وضع ما بعد 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى وضع تقوده حكومة مدنية تعمل سريعا لتلافي مزالق الانهيار الاقتصادي والتدهور الأمني.
هذه المرحلة الآنية، هي مرحلة طوارئ عاجلة لا تحتمل الانتظار والتريث طويلا كما المرحلة التالية، وكأنها أشبه بإسعاف مريض في وضع حرج وإنقاذ حياته قبل إدخاله للتنويم في أسرة المستشفى لاستكمال التشخيص والعلاج، وهذه تعادل المرحلة الثانية، مرحلة تثبيت أركان أي إتفاق أو توافق يحدث في المرحلة الأولى، ثم إطلاق عملية الحوار الشامل عبر آلية المائدة المستديرة أو غيرها، تتبنى مشاريع وخططا محددة وبرامج تفصيلية تربط بين كيفية إزالة الاستبداد والطغيان ولجم القمع، وبين دحر أسباب الحرب وفك طلاسم الجهل والتجويع والتفاوت واللامساواة، وبين الاستجابة لمطالب الشارع وشعارات الثورة. وعملية الحوار الشامل هذه هو ما تسعى إليه وتعمل من أجله المبادرة الأممية بقيادة البعثة المكلفة بدعم الفترة الانتقالية في السودان والمعروفة اختصارا بيونيتامس. وإذا كانت ملامح المرحلة الثانية هذه معروفة وواضحة، واستهلتها يونيتامس بسلسلة لقاءات تشاورية مع كل مجموعات وفصائل أصحاب المصلحة، ويجري الآن إعداد تقرير واف عن نتائج هذه اللقاءات كما أشار مكتب البعثة الأممية، فإن ملامح المرحلة الأولى، رغم أنها حرجة وعاجلة، لم تتضح بعد، وأعتقد أنه واجب مقدم أن تبذل الجهود اليوم قبل الغد لوضع خارطة طريق قصير المسافة وليس طويلا متباعدا للتصدي لهذه المرحلة الآنية الحرجة. وهو تصدي يحتاج إلى مزيج من الشجاعة وسعة الأفق. أما إذا أردنا فعلا اقتلاع الأزمة من جذورها فلابد من عمل جماهيري واسع، يهز في وقت واحد البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلاد. لكن، هذا العمل الجماهيري لن يتم بالرغبة الذاتية، مثلما لا يمكن تحقيقه، في ظل واقع البلاد الراهن، بمناهج ووسائل العمل القديمة، وإنما عبر الإبتكار والإبداع للجديد، وعبر التحالف المتين بين النشطاء من أجل التغيير في المركز ومناطق القوى الحديثة، والنشطاء في الأطراف ومناطق الهامش، إذ عند نقطة تجسيد هذا التحالف يتفجر التغيير الحقيقي والجذري.

كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية