الخلافات الخليجية متوقعة برغم المشتركات الكبيرة بين العائلات التي تحكم دوله. ولكن ما حجم هذه الخلافات؟ وهل هي بمستوى تهديد وجوده الذي استمر اكثر من ثلاثة عقود؟ ام انها ظاهرة طبيعية لا يمكن منع حدوثها نظرا للطبيعة البشرية واختلاف الاجتهادات؟ وما مدى تأثر علاقات دول المجلس مع بعضها بما يجري في محيطها الاقليمي؟ الامر المؤكد ان السعودية كانت عنصر جذب المشيخات الاخرى للمجلس، فهل ما تزال كذلك ام انها اصبحت تمارس دورا يؤدي الى عكس ذلك؟
في خضم ما يجري في المنطقة لا يمكن قراءة الخريطة السياسية بدون التعرف على الآفاق السياسية للمسؤولين الكبار في المملكة السعودية، خصوصا في ضوء تحول الحكم من ابناء الملك عبد العزيز الى الصف الثاني الذي يضم احفاده. ويمكن القول ان المملكة تحكم منذ عشر سنوات على الاقل من قبل احفاد مؤسس المملكة، ومنهم بندر بن سلطان ومحمد بن نايف وتركي الفيصل واخيه سعود. هذا الانتقال كان متدرجا وهادئا، لم تصاحبه ضجة كبرى او زوابع سياسية غير مألوفة. وهنا يمكن القول انه برغم الحديث المتواصل خصوصا لدى المحللين الغربيين حول مسألة ‘الاستخلاف’ وتحدياتها للنظام السعودي فانها تمت في الاعم الاغلب بهدوء وتوافق ولم تنطلق اصوات رافضة كثيرة.
مع ذلك فهناك اكثر من 15 من ابناء عبد العزيز ما يزالون ينتظرون دورهم لولاية العهد. وربما يعود ذلك لشعور الجميع بخطر الاختلاف على الحكم نفسه، خصوصا مع تصاعد التحديات التي تواجه الانظمة الخليجية ذات الطبيعة الخاصة. وبرغم ما تشيعه بعض اجهزة الاعلام الخليجية بان التهديد الاكبر لدول مجلس التعاون ينطلق من الخارج، فان الواعين من ابناء تلك البلدان يدركون ان حالة الجمود التي يمر بها مجلس التعاون من جهة وتخلف حكوماته عن مسايرة ركب التطور في مجال الحريات والشراكة السياسية، وسوء توزيع الثروة النفطية الهائلة، كلها عوامل تؤدي الى الاضطراب السياسي الداخلي. يضاف الى ذلك ان حالة التنافس بين حكومات هذه الدول لتوسيع النفوذ خارج الحدود كثيرا ما ادى الى الاحتكاك في ما بينها وساهم في تكثف سحب الاختلاف والشكوك المتبادلة.
فما هي اهم دوائر الاختلاف التي تؤدي الى الخلاف بين العائلات الخليجية الحاكمة؟ يمكن سرد العديد من الاختلافات التي تعصف بدول مجلس التعاون وتهدد تماسكه ما لم يتم التعاطي معها بشكل اكثر جدية. اول هذه الخلافات قضايا الحدود التي تطل برأسها بين الحين والآخر وتعكر صفو العلاقات بين هذه الدول. فالامارات غاضبة للتمدد السعودي في مناطق تعتبرها ضمن حدودها. وبالتحديد كان تدشين حقل الشيبة قبل ستة اعوام من قبل السعودية صاعقا فجر ازمة في العلاقات ما تزال آثارها مستمرة حتى اليوم. كما ان الكويت غير مرتاحة لما تراه من تلكؤ سعودي في ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، الامر الذي عطل حتى الآن ترسيم حدود الكويت البحرية مع ايران. وعلى الحدود بين السعودية واليمن ثمة بؤر توتر لا تكاد تختفي حتى تظهر مرة اخرى. وفي الشهر الماضي تم تبادل اطلاق النار بين قبائل يمنية والجيش السعودي بعد ان حاول الاستيلاء على مواقع حدودية يمنية غنية بالنفط. ويشعر شعب البحرين بغبن شديد بسبب تواجد القوات السعودية على اراضيهم منذ ان عبرت الحدود في منتصف اذار/ مارس 2011 وتمركزت في مناطق حساسة وربما شاركت في التصدي للثورة التي عصفت آنذاك وما يزال لهيبها يستعر. وبرغم الجهود التي بذلت في العقدين الماضيين لاحتواء آثار تلك الاختلافات فقد بقيت القضايا الحدودية من أكثر ما يعصف بالعلاقات ويؤجج المشاعر بين هذه البلدان. ونظرا للمساحة الجغرافية الشاسعة الواقعة تحت نفوذ العائلة السعودية، فان اغلب المشاكل الحدودية تدور رحاها بين السعودية والمشيخات الاخرى. ولم يستطع البيت السعودي حتى الآن الصعود بمستوى التعاطي مع الدول الخليجية الاخرى الى ما يناسب دور ‘الشقيقة الكبرى’ وهو المصطلح الذي يتكرر على ألسنة مسؤولي تلك الدول.
ثاني دوائر الخلاف يتجسد بما حدث في الفترة الاخيرة من تباين المواقف بين حكومات مجلس التعاون ازاء ما يجري في الدول التي شهدت ثورات اصلاحية كبرى. وفيما لعبت قطر دورا واضحا في تلك الثورات سواء بالتغطيات الاعلامية الواسعة التي قامت بها قناة الجزيرة، ام بالدعم السياسي والمالي الذي قدمته قطر لقوى المعارضة، فقد اتخذت السعودية موقفا مختلفا تماما، في اغلب تلك البلدان. ويبدو ان قطر تعهدت قبل اكثر من عقدين للغربيين باحتواء مشروع ‘الاسلام السياسي’ وذلك بدعم حركاته السياسية وتقريبهم من الدوحة واستضافتهم في قطر بين الحين والآخر. وتحملت السعودية ذلك فترة من الزمن، ولكن سرعان ما حدث اضطراب في موازين القوى بعد انطلاق ثورات الربيع العربي. فقد نجم عن ذلك صعود الاسلاميين الى الحكم في عدد من البلدان مثل تونس ومصر والمغرب. وتنظر السعودية لتيار الاسلام السياسي باعتباره تحديا مباشرا لمنظومتها السياسية والدينية، وترى فيها منافسا حقيقيا على النفوذ وتهديدا مستقبليا لسلطتها حتى على الجزيرة العربية. قطر استطاعت تحقيق اختراق واسع في صفوف الاسلام السياسي خصوصا بين جماعات الاخوان المسلمين. وكانت زيارات امير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لبعض تلك الدول وما حظي به من حفاوة واعتراف بدور حكومته في دعم التغيير، انعكاساتها على نفسية الحكم السعودي الذي رأى في السياسة القطرية منافسة غير مقبولة. فمن لبنان الى فلسطين وتونس وليبيا كان هناك اعتراف بالدور القطري الذي بدا اكبر من حجم تلك المشيخة الخليجية. وبدا ان النفوذ السعودي في عالم ما بعد الربيع العربي اصبح يتقلص تدريجيا وقد يصل التغيير الى قلب الجزيرة العربية. فجاء الموقف السعودي الحاسم بالتصدي لذلك النفوذ على محاور عديدة.
اولها هندسة تغيير داخل الحكم القطري ادى لتنازل الشيخ حمد عن الحكم لابنه تميم. ثم جاء الدور السعودي الداعم للانقلاب العسكري في مصر وما تلاه من استهداف دموي وسياسي صاعق لجماعة الاخوان المسلمين. وصعدت السعودية دعمها لمجموعات العنف في العراق، واخيرا في سوريا. ونجم عن ذلك تصدع جبهة القتال ضد النظام السوري حتى اصبحت المجموعات المدعومة من قبل السعودية ومنها الجبهة الاسلامية وجيش الاسلام، تستهدف بالتصفية عناصر المجموعات الاخيرة خصوصا تنظيم القاعدة الذي تمثله ‘داعش’. ووفقا للتقارير الاخيرة فقد نجم عن الاقتتال البيني مصرع اكثر من الف شخص من المجموعات المعنية في الاسبوع الماضي وحده.
اما الدائرة الثالثة للاختلاف فترتبط بالتحالفات الاقليمية التي اصبحت تضغط على علاقات دول مجلس التعاون مع بعضها. وقد جاء الانفراج الاخير في العلاقات بين ايران والغرب ليكشف عمق الاختلافات بين دول المجلس. فقد ظهر الدور العماني في التوسط بين الجمهورية الاسلامية الايرانية والولايات المتحدة بشكل مفاجىء للكثيرين.
واعتبرت الرياض الدور العماني عملا لا ينسجم مع استراتيجيتها الهادفة لفرض عزلة اقليمية ودولية على ايران. بينما تحركت سلطنة عمان باتجاه معاكس لذلك تماما، فاصبحت ايران في موقع سياسي مختلف عما كانت عليه منذ قيام الثورة الاسلامية في 1979. هذا الموقف العماني لن تنساه السعودية، ولكنها تعلم ان مجلس التعاون الخليجي يمر اليوم بواحد من اصعب الاوقات منذ تأسيسه في 1981 وان تصدعه من الداخل لا يخدمها كقوة تتطلع للهيمنة على المنطقة مستخدمة التحالف الخليجي وسيلة لذلك. ولا يتوقف انزعاج السعودية من سلطنة عمان عند وساطتها بين ايران وامريكا، بل ان موقفها من مشروع الاتحاد الخليجي الذي طرحته السعودية قبل عامين أغضبها كثيرا، فقد أبدت مسقط طوال هذه الفترة تحفظات على ذلك المشروع، ولكنها افصحت عن موقفها بوضوح في مؤتمر ‘الامن الاقليمي’ الذي عقد بالعاصمة البحرانية في شهر كانون الاول/ ديسمبر الماضي. فقد طرح وزير الخارجية العماني موقف بلاده الرافض للاتحاد، مضيفا ان عمان ستنسحب اذا ما تم اقرار ذلك المشروع. سلطنة عمان انزعجت كثيرا عندما اعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل عامين مشروع الاتحاد بدون توافق مسبق مع بقية الدول الاعضاء، واعتبرت الاصرار على ذلك الاتحاد تحديا للدول الخليجية الاخرى.
واذا اضيف الى ذلك موقف قطر ازاء الازمة السورية وتقاربها مع ايران في الفترة الاخيرة، يتضح ان التوازن داخل المجلس ليس مستقرا وان أسباب تصدعه قائمة. فما جدوى مجلس لا يتوافق اعضاؤه حول القضايا الاقليمية المهمة التي تعصف بالمنطقة؟ وكيف يستطيع الاستمرار في العمل المشترك اذا كان لدى كل دولة عضو تحالفات تختلف وربما تتناقض مع تحالفات الدول الاخرى ضمن المجلس؟
فمثلا اصبح التنافس بين قطر والسعودية على النفوذ في سوريا سببا للتقاتل بين المجموعات المسلحة، الامر الذي ادى الى اضعاف مواقفها الميدانية وتشجيع النظام السوري على شن المزيد من الهجمات المكثفة على مواقع تلك المجموعات. وتتسع دائرة الخلاف في السياسات بين قطر والسعودية لتصل الى مصر.
فبينما تدعم السعودية حكم العسكر الذي جاء بانقلاب عسكري، ما تزال قطر تدعم الاخوان المسلمين وتشجب الانقلاب. ويتوقع تصاعد التوتر بين جميع الاطراف اذا نفذ جنرالات مصر خطتهم باستهداف منظمة حماس الفلسطينية، استكمالا لضرب خط الاخوان المسلمين. وهنا ستجد قطر نفسها تقف على الطرف المضاد للسعودية، بدعمها حماس.
وهكذا يزداد المشهد تعقيدا ليلقي بظلال من الشكوك على مجلس التعاون ومستقبله.
وثمة دائرة رابعة للخلاف تتصل بمدى تماسك مجلس التعاون الخليجي او تصدعه. فأمن الخليج، ذلك المفهوم الذي ما برح عنوانا للتدخلات الاجنبية والتحالفات الاقليمية، اصبح مثار لغط كبير في ظل الشد والجذب حول المشروع النووي الايراني. فدول مجلس التعاون ليست متفقة بشأن الدور الايراني في الامن الخليجي برغم ان ايران تملك النصف الشرقي من الخليج كاملا، بينما تتقاسم دول مجلس التعاون نصفه الغربي. وقبل التوصل للاتفاق الايراني الغربي الاخير وضعت سيناريوهات عديدة لاحتمالات الحرب والسلام، وتم التطرق لمواقف دول مجلس التعاون. وكان واضحا ان السعودية كانت الأشد رفضا للمشروع الايراني والاتفاق الذي تم بشأنه مع الغرب. وذكرت مصادر اعلامية غربية ان الرياض اتفقت مع تل أبيب على التعاون العسكري فيما لو صدر قرار شن عدوان اسرائيلي ضد ايران.
البعد الاسرائيلي هذا أثار حفيظة الايرانيين، ودفعهم لاعادة النظر في ما كانوا يعتبرونه ‘بديهيات’، وان من غير المعقول وقوف اي من دول مجلس التعاون مع العدو الاسرائيلي. هذا الموقف السعودي المتميز أثار النقاش مجددا حول مدى استقلال مجلس التعاون الخليجي في صياغة مواقفه بعيدا عن الاملاءات الغربية او الهيمنة السعودية. وبرغم محاولات السعودية الضغط على الموقف الغربي بالتظاهر بالبحث عن مصادر تسليح اخرى في روسيا فثمة ادراك لعدم امكانية هذا الخيار، وان السعوديين لن يخاطروا باثارة حفيظة الامريكيين او استفزازهم. فمن بين الخطوط الحمراء الامريكية في سياستها تجاه الخليج منع الروس من الوصول الى مياهه الدافئة، باعتباره ساحة نفوذ امريكية، لا تخضع للمساومة. وحتى العراق الذي تظاهر بعزمه على شراء اسلحة روسية بسبب تلكؤ الولايات المتحدة في تزويده بطائرات عسكرية، لم يجد بدا من اعادة تقييم سياساته وعدم القفز على ما يعتبره الغربيون ‘خطوطا حمراء’.
فالسعودية حاولت الضغط مرارا على امريكا بالتوجه الى روسيا وادركت استحالة احداث تغيير جوهري على منظومتها التسلحية التي تعتبر امريكية بشكل كامل. ولم تفلح محاولاتها لابتزاز واشنطن، بل ربما جاءت بنتائج عكسية فروسيا منزعجة من السعودية جدا بعد حدوث عمليات ارهابية عديدة على اراضيها، قال المحللون انها مدعومة من السعودية، وانها رسالة لروسيا بسبب مواقفها الداعمة للنظام السوري. واصبحت السعودية هدفا لروسيا بعد ان كانت الاولى تسعى لاستمالتها بعقد صفقات سلاح عملاقة معها.
مجلس التعاون الخليجي اصبح يعيش تناقضات داخلية ستؤثر حتما على تماسكه الداخلي وعلى ادائه ازاء القضايا المحلية والاقليمية. بعد ثلث قرن من العمل المتواصل تحول مجلس التعاون الخليجي الى تركة ثقيلة ينوء بحملها زعماؤه، ويعجز تدريجيا عن صياغة سياسات خارجية تتناغم مع عقيدته السياسية وطموحات شعوبه الباحثة عن الامن والاستقرار والحرية والشراكة السياسية. انها فترة عصيبة في حياة المجلس الذي بقي في نظر الكثيرين ‘ايقونة’ للعمل المشترك في منطقة عجزت عن التوحد ضمن الاطر الثقافية او الدينية او الموروث السياسي.
ومرة اخرى تصطدم اولويات زعمائه بطموحات البيت السعودي الذي يسعى لتطوير دوره الى خارج البيت الخليجي، برغم ما لذلك من انعكاسات سلبية على العلاقات البينية بين دول مجلس التعاون الذي يبدو انه يعيش الحقبة الاخيرة من وجوده.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
الحل اخاله في وحدة اندماجية على غرار الامارات العربية المتحدة.
الله يوفق العرب اجمعين ويوحد كلمتهم بما يرضي الله