تطور الرواية العربية: من رواية الرواية إلى رواية اللارواية

لعل من أهم التقنيات المؤثرة في تطور الرواية العربية: تقنية الأبعاد المكانية الثلاثة، مضافا إليها بُعد الزمان الواحد بالتوازي مع الأبعاد الأربعة للنظرية النسبية: الطول والعرض والعمق والزمن في رواية «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل ـ 1962، وتعدِّد مستويات الوعي بالزمن في رواية «الصخب والعنف» لوليم فولكنر ـ 1963، ولم أنتبه إلى هاتين الروايتين، إلا ّبعد قراءة رباعية «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم 1962، ورباعية «ميرامار» لنجيب محفوظ ، ولكن لا يمكن أن أختزل تطور الرواية العربية في هاتين التقنيتين ، فثمة تقنيات أخرى منها: القصة بوصفها وجهة نظر لهنري جيمس، والوعي لجيمس جويس، واللاشعور لفرجينيا وولف، والشيئية لألن روب غرييه وناتالي ساروت.
وتتألف «رباعية الإسكندرية « من أربعة أجزاء تمثل أربع شخصيات، يقول لورانس داريل عنها: أردت «أن أقدم سردا مجسّما بشخصيات مجسّمة» (حوار مع لورانس داريل مجلة «ذا باربس ريفيو» حاوره: جين أندروسكي وجوليان ميتشل ترجمة أمير زكي إبريل/نيسان 2012). كما أن كل جزء من هذه الأجزاء يُروى على لسان شخصية: ( جوستين ـ 1957 وبالتازار ـ 1958 وماونت أوليف ـ 1958 وكليا ـ 1960). ولكن أول مَنْ تلقّف شيفرة الأصوات المتعدِّدة من «رباعية الإسكندرية»، هو فتحي غانم في رباعية روايته «الرجل الذي فقد ظله»، بعد عامين من صدور الجزء الرابع من «رباعية الإسكندرية». وقد مارس فتحي غانم لعبة جديدة بين (وجه المؤلف) و(قناع الراوي) في تقديم أربع شخصيات تروي الحدث من تلقاء نفسها، وكأن ليس وراءها مؤلف:
• في الجزء الأول: القسم الأول ترويه: مبروكة والقسم الثاني ترويه: سامية.
• وفي الجزء الثاني، القسم الأول يرويه: ناجي والقسم الثاني يرويه: يوسف.
وفي هذه الرواية؛ صحافي انتهازي وصولي، يتسلّـق سـلّم الصحافة من الهامش حتى يتبوأ المركز. وبذا اكتشف فتحي غانم رواية الحداثة بوعي مبكِّر، وعلى نحو مغاير للواقعية الاشتراكية، التي كانت مهيمنة على غالبية كُتّاب الستينيات المصرية لما تتمتع به من سلطة أيديولوجية. ثم تلقّف نجيب محفوظ هذه التقنية من فتحي غانم، فكتب «ميرامار» 1967، وقد شارك في صناعة الحدث أربع شخصيات من وجهات نظر متعدِّدة: عامر وجدي ـ راوي القسم الأول والأخير، وحسني علاّم ـ راوي القسم الثاني ومنصور باهي ـ راوي القسم الثالث وسرحان البحيري ـ راوي القسم الرابع. ومن خلال هذه التقنية، صار بإمكان القارئ التعـّرف على حدث واحد من وجهات نظر متعدِّدة، أو صار بإمكان الروائي تقديم حدث واحد من وجهات نظر متعدِّدة. ووفق هذه الفكرة، فإن الشخصية لا تمتلك سوى معرفة جزئية عن الحدث الواحد، ولكن لا تكتمل هذه المعرفة إلاّ باستكمال الأجزاء الأخرى من معرفة الحدث.
أما تقنية «الصخب والعنف»، فإن ما يعنينا منها، الكيفية في تحطيم المنطق الواقعي للزمن، فقد حاول (كونتين) في رواية «الصخب والعنف» أن يتخلّص من الزمن الضاغط عليه، فقام بقلب الساعة على وجهها وتحطيمها واقتلاع عقربيها، ثم وضعها في جيبه، ولكن الساعة استمرت في دقاتها بصوت لا معنى له، وبذا أصبح وجود الساعة كوجود (الأخ بنجي) المتخلف عقليا، وهو يصرخ بكلام لا معنى له أيضا، حتى صارت الساعة وبنجي معا «تجسيدا لعبث الوجود ذاته». ويستدعي تحطيم (كونتين) لزمن الساعة إلى ذهني، الكيفية التي قام بها بطل قصة «خوذة لرجل نصف ميت» لأحمد خلف في إطلاق النار على الساعة الجدارية: تحت تأثير كابوس رهيب/ كانت أصابعه تتجمع حول مقبض المسدس/ يرفعه قليلا/ نحو الساعة الجدارية/ تتضاعف الخطوات/ بينما تطلق فوهة المسدس إطلاقاتها الثلاث/ يهدأ كل شيء من حوله/ بينما يتوقف بندول الساعة.

جاءت رواية «السفينة» 1970 لجبرا إبراهيم جبرا متأثرة بترجمته لرواية «الصخب والعنف»، فقد ضمّت مجموعة من المسافرين على ظهر سفينة عائمة على أمواج (زمنية متداخلة) مترجرجة.

كما بنى نجيب محفوظ فكرة روايته «ثرثرة فوق النيل» 1966 على كيفية تفتيت وحدة الزمن من خلال شخصيات عدمية، اجتمعت في عوامة عائمة على سطوح قلقة. وجاءت رواية «السفينة» 1970 لجبرا إبراهيم جبرا متأثرة بترجمته لرواية «الصخب والعنف»، فقد ضمّت مجموعة من المسافرين على ظهر سفينة عائمة على أمواج (زمنية متداخلة) مترجرجة. ولكن الروائية الوحيدة التي حاولت إلغاء الزمن، وفشلت في ذلك هي جرترود شتاين، إذ «إنها حطّمت ساعتها وسحقتها، ثم بعثرت أجزاءها على العالم مثل أطراف أوزيروس. وهي لم تفعل هذا بدافع الشر، ولكن لغرض نبيل- فقـــد كانـــت تأمل أن تخلّص القصص من طغيان الزمن، وأن تعبّر فيه عن الحياة بالقــيم فقط، لكنها فشلت، لأن القصصي إذا تخلّص تماما من الزمن فلن يستطيع أن يعبر عن شيء إطلاقا» ( أ. م فورستر/ أركان القصة/ ترجمة كمال عياد جاد).
وتأثرت رواية «مربع المجابهة»2001 لكاتب هذه السطور برباعية «الرجل الذي فقد ظله» لفتحي غانم، فقد قدّمت الحدث الواحد من منظور أربع شخصيات، ثم أضافت إليها شخصية «المدوِّن»، كما قامت بتجزئة الحدث الواحد إلى أربعة موضوعات، ثم أضافت إليها «تتمة المدوِّن» بوصفها مدوّنة لرواية لم تنشر بعد. ويمكن أن يلحظ القارئ، كيف حاولت هذه الروايات أن تلعب بقواعد تقنية «الأصوات المتعدِّدة» وتقنية «تعدّد مستويات الوعي بالزمن»، وخلط الترتيب الزماني والمكاني للشخصيات وتجزئة الحدث الواحد في تقديم كتابة روائية جديدة تنزع نحو رواية اللارواية. لقد ظهرت هاتان التقنيتان في عصر جديد من أهم سماته: صراع الأشكال والأفكار والأجيال، بحثا عن طرائق جديدة في صوغ رواية الحداثة، وبذا وِلدت كتابة روائية جديدة يمكن الاصطلاح عليها بـ(رواية الرواية) أو (ضد الرواية) Anti nove ، وهي قائمة على تحطيم التسلسل المنطقي للأحداث، والتحرّر من ضغط الزمان والمكان، وإبدال الرؤية الفنية بالرؤية اللايقينية للعالم.
إذن في هذا العصر (عصر الشك وانهيار اليقينيات)، لم تعد تقنيات داريل وفولكنر وجويس وفرجينيا وولف، وحتى أساليب بورخس وماركيز وكالفينو نافعة، فقد تغيّر الإنسان وأصبح أكثر تعقيدا، وتبدّل العالم وغدا أكثر اختلالا، وتطورت الواقعية، وصارت أكثر افتراضية في جعل الواقع والوهم وجهين لعملة واحدة، لدرجة ينزع فيه الواقع الافتراضي، لأن يكون أكثر واقعية من الواقع ذاته، ما يستدعي هذا العصر مقاومة ما تنتجه الحروب والأزمات من تفكك وانهيار بقوة التوجه نحو الانفراج، أو الانفتاح على رؤية جديدة للعالم. ويمكن أن نلحظ مؤشرات هذا التوجـّه في التخلص من الحبكة والشخصيات، ودخول الروائي في الرواية كـ «مؤلف منظور»، وتذرير اللغة، وتفكيك نظام السرد، وتفتيت الزمن وتشظية المكان، وتجاوز مفهوم الجماعات المتخيلة بالذوات المنعزلة، ومعاداة سرد الواقع بالسرد المضاد له، حتى صارت الرواية لا تؤمن بالقضايا الكبرى، وإنما تهتم بالجزئيات الصغرى، التي ترتبط بحياة كُتّابها(فريد الزاهي/ الرواية والتقاليد البطريركية: المفارقات والأسئلة/ جريدة «الأديب الثقافية» 2006).
ويمكن التمثيل للكتابة الروائية الجديدة في روايات منها على سبيل المثال: «شرفة الهذيان» إبراهيم نصر/ «أنت منذ اليوم» تيسير سيبول/ «بيضة النعامة» رؤوف سعد/ «قميص وردي فارغ» نورا أمين/ «الرسائل» – مصطفى ذكري/ «حجر الضحك» هدى بركات. وقد ترافق مع هذا التوجّه في الكتابة الروائية ؛ تغيّرات تمثلت في انهيار الدولة الوطنية، وهيمنة اقتصاد السوق، وانكفاء الخطاب القومي، وظهور الإسلام السياسي الراديكالي، وانهيار ما تبقّى من الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال.

٭ ناقد وكاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية