تطور مقلق لظاهرة خطرة

شيئا فشيئا تتبلور ظاهرة سياسية عربية، فكرا وممارسة وتناغما مع شتى مؤامرات أعداء الأمة العربية، لتشكل عائقا خطرا أمام العمل القومي العربي المشترك.
وهي ظاهرة يوجدها وينميها توفر ثلاثة عوامل:
*العامل الأول هو وجود ثروة ريعية فائضة، تتركز في يد أقلية لا تخضع للمساءلة والمحاسبة، وتُستعمل باستخفاف عبثي تبذيري في الصراعات السياسية.
*العامل الثاني هو تدني مستوى المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية في الحكم على الأمور السياسية، الأمر الذي يؤدي إلى عدم إعطاء أهمية كافية للالتزامات الوطنية والقومية العليا المشتركة.
*أما العامل الثالث فهو الاستعداد، بقصد أو من دون قصد، للعب دور الوكيل الوظيفي نيابة عن، أو في خدمة هذه الدولة الأجنبية أو تلك الاستعمارية على المستويين الإقليمي والدولي.
تداخل تلك العوامل يجعلها ظاهرة مركبة، غامضة، مليئة بالتناقضات، مغطاة بألف قناع وقناع، تخفي في كثير من الأحيان أهدافا لا تمت بصلة لأي أهداف وطنية أو قومية أو إنسانية، أهدافا تتلخص في خدمة مستقبل وطموحات هذا المسؤول، أو أوهام وجهالة تلك المجموعة. إنها، بلا مبالغة، ظاهرة لديها قدرات هائلة على التفنن في ممارسة المفاجآت الجنونية العنيفة المبتذلة، التي في جوهرها، تتنكر للانتماء لهذه الأمة ولهوية العروبة وروح الإسلام. إنها ظاهرة توجد بنسب متفاوته في وطننا العربي، لكنها تتمظهر بأجلى صورها في بعض دول الخليج العربي، حيث توجد جهات أو جماعات قابلة لممارسة هذه الظاهرة، بكل ما فيها من أخطاء ومصائب وفواجع، لأسباب تدعي أنها مبررة وكافية لإدخال مجتمعاتها وأمتها العربية في أتون جحيم تلك الظاهرة. المفجع في الأمر أنه كان من المؤمل ومن الثوابت القومية أن تكون الثروة البترولية والغازية الهائلة لدى البعض مصدر عون وتعاضد مسؤول للأمة العربية، لمساعدتها في نهوضها الحضاري وتحقيق التنمية المستدامة، لكن بدلا من ذلك نجح البعض في جعلها مصدر تغذية لتلك الظاهرة وتفعيلها في هذا القطر العربي أو ذاك. وبدلا من جعل تلك الثروة ماء رقراقا يطفئ حرائق أرض العرب أحالها البعض إلى حطب يزيد تلك الحرائق اشتعالا.
وهكذا أضاع البعض المليارات على نشر فكر فقهي إسلامي متزمت متخلف تكفيري عنفي، من نتاج أوهام مؤسس تلك المدرسة الفقهية، أو من أكاذيب ذاك الدعي المدرب المدسوس من قبل الاستخبارات الأمريكية والصهيونية، الذي نصبته خليفة على المسلمين. وكنتيجة طبيعية صرف ذلك البعض المليارات على تجييش وتدريب وتسليح وتمويل الإرهابيين من مجانين الخيالات والأوهام والشعارات الدينية التي شوهت روح الدين الإسلامي ومارست باسمه، ما ليس فيه وما يتعارض مع سماحته وعدله، جرائم القتل والاغتصاب وحرق الأرض العربية ومن عليها.

تراجع القيم في الحياة السياسية العربية، والضغوط الخارجية قادت البعض للتعامل مع فلسطين وكأنها ضيعة من أملاكه

ومن وراء أقنعة مكيافيلية مجسدة للنفاق، صرف ذلك البعض المليارات على ادعاءات تلفيقية بأنهم يمارسون تلك الظاهرة من أجل هدف نبيل، وهو نقل هذا القطر العربي أو ذاك إلى واحة الديمقراطية والكرامة الإنسانية، بينما يعرف القاصي والداني أن تللك الجهات لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها. لكن حاملي لواء تلك الظاهرة انتقلوا الآن إلى تسخير العوامل الثلاثة تلك لممارسة اللعب العبثي بقضية العرب الوجودية المقدسة: الصراع العربي الصهيوني فوق أرض فلسطين. ويظهر أن الثروات البترولية التي لعبت بتوازن البعض، وتراجع القيم في الحياة السياسية العربية، والضغوط والابتزازات الخارجية قادت البعض للاعتقاد بأنهم يستطيعون التعامل مع فلسطين وكأنها ضيعة من أملاكهم، ومع الشعب الفلسطيني وكأنه جزء من رعايا تابعين لهم ويأتمرون بأوامرهم. من هنا تحمس هؤلاء لموجات متتالية من شتى أنواع التطبيع مع العدو الصهيوني، بما فيها اللقاءات الحميمة مع عتاة الإجرام الصهيوني، لبحث صفقة صهيونية أمريكية وضعها تاجر عقارات، يعتقد بأن الأوطان قابلة للبيع والشراء، تماما مثل عقاراته.
وتصل تلك الظاهرة إلى قمة عبثيتها بالمناداة العلنية بضرورة تقديم العرب الضحية، ضمانات لتبديد مخاوف الصهيوني المحتل السجان القاتل… طمأنة كيان يمتلك عشرات القنابل الذرية وكل أنواع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية المميتة، وتتوفر في خدمته القوة العسكرية والسياسية والمالية الأمريكية. نعم، يمارس أصحاب تلك الظاهرة مثل هذا العمى السياسي المفجع بالنسبة لمأساة قومية وجودية، مأساة فلسطين العربية.
لنطرح الأسئلة التالية: هل ستقود تلك الظاهرة إلى إخراج العرب من ضعفهم وانقساماتهم والدمار الهائل الذي تعيشه بعض أقطارهم؟ بالطبع « لا» إنها لن تفعل.
هل ستبعد تلك الظاهرة التدخلات السافرة في كل شؤونهم، من قبل بعض الدول الإقليمية والكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية؟ بالطبع «لا» إنها لن تفعل. هذه الظاهرة من الفوضى والجهالة والعبث السياسي يجب أن تتوقف، قبل أن تحرق نتائج ممارساتها الأخضر واليابس في وطن العرب. عند ذاك لن يفيدنا الندم ولا البكائيات. إن كشف أخطاء ومخاطر تلك الظاهرة الجنونية أصبح مسؤولية تاريخية، إذ أن التعامل معها بغمغمة واستحياء سيقود إلى كوارث.
كاتب بحريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    استاذنا الكبير علي فخرو
    تحليل دقيق وصحيح ولكن لم تطرح السؤال الثالث ألا وهو: هل هؤلاء الذين يلعبون بالنار لن تصل إليهم يوما..

إشترك في قائمتنا البريدية