تعامل شباب الأمة مع الشبكة العنكبوتية

يحتاج جيل شباب وشابات الأمة العربية أن يضع جهدا مكثفا ومستمرا لفهم وسيلة الشبكة العنكبوتية التي يستعملها يوميا بانغماس ونهم وتعلق، فهم كل جوانب تكوينها: من أهداف واضحة وخفية، من مقدار صحة المعلومات والإحصائيات التي تنشرها، من مقدار الكذب الذي يخترقها، ومن تغير طبيعة المؤسسات التي تشرف عليها.

وتكمن أهمية هذا الموضوع في الدور الكبير الذي لعبه الاستعمال المكثف لتلك الشبكات، في تفجير وتنظيم حراكات وثورات الربيع العربي من جهة، وفي الأدوار المتنامية المعقدة التي ينتظر أن تقوم بها تلك الوسائل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل المجتمعات البشرية.

دعنا نمعن النظر في التغير الهائل في طبيعة القوى التي تهيمن على الشبكة، ففي بداية هذه الثورة التواصلية الإلكترونية كانت المؤسسات التي تؤسس أنواع الشبكات، وبالتالي أنواع التواصل، شركات صغيرة ومحددة الوزن في الحياة الاقتصادية والمالية الدولية. كانت قيمة تلك الشركات تحسب بالملايين من الدولارات، وكان الهدف الأساسي من تكوينها هو في إتاحة المعلومات لكل البشر، وبالتالي في تفاهم المجتمعات وتلاقح الثقافات. ولكن بمرور الوقت، ومن خلال انقلاب تلك الشبكات إلى أكبر وأنجح وسيلة للإعلان، تضاعفت قيمة الشركات وأصبحت تحسب بمئات المليارات، وقريبا جدا ستحسب بالترليونات.

مؤسسات التعليم العربية مشغولة بحشو الرؤوس بالمعلومات، وإعادة إنتاج الثقافات المتخلفة في عقول الأجيال وهنا الخطر

نحن إذن أمام إنقلاب في طبيعة الشركات من شركات خدمية، ترمي لتسهيل نشر وتبادل المعلومات بين الناس، لتصبح شركات رأسمالية كبرى، تزيد من رأسمالها وأرباحها السنوية عن كل الشركات الدولية العملاقة، مثل شركات البترول وصناعة السيارات، بل وهي تبز هذه الشركات في قدرتها على التهام كل فرد أو نشاط جديد في حقل تخصصها، لتصبح بالفعل شركات احتكارية قادرة على التحكم في أسعار الخدمات التي تقدمها، وفي التلاعب بالأسواق، وفي ابتزاز العملاء. ما عاد الهدف هو خدميا لمساعدة البشر، إذ أصبح منغمسا في صراعات التنافس الرأسمالي العولمي المتوحش. وبالطبع لن يقف الأمر عند حدود الاقتصاد، إذ بدأ بالفعل في دخول ساحة السياسة. هنا ستبدأ شركات الشبكات العنكبوتية لتشتري أو تضغط على أعضاء البرلمانات والحكومات والأحزاب، لتنفيذ ما يناسبها ويزيد من أرباحها.

وبالفعل فقد بدأت تنشر كتب في الغرب تتحدث عن التأثيرات السلبية لبعض نشاطات تلك الشركات على الحياة الديمقراطية في أمريكا وإنكلترا وباقي دول أوروبا. وهناك كتابات كثيرة عن الأدوار التي لعبتها شبكات مثل فيسبوك وتويتر، على سبيل المثال، في انتخاب الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية. ومثلما هي تستعمل الآخرين، فإن الآخرين هم أيضا سيستعملونها لتحسين مصالحهم وتعظيم نفوذهم، في حلقة من تبادل المنافع الانتهازية. إنها اللعبة الرأسمالية بكل تفاصيلها وتعقيداتها وفضائحها، تطل علينا من جديد في ساحة التواصل الإلكتروني الجديدة.

ما يهم شباب أمة العرب هو أن يعرفوا بأن تلك التغيرات ستساهم في جعل قسم كبير من الاستنتاجات الإحصائية التي تنشر عن طريق الشبكات مليئة بالأخطاء والقراءات التضليلية، وفي جعل قسم كبير من الأخبار والمعلومات، عبارة عن نصف حقائق تختلط مع أنصاف أكاذيب. ومع الوقت، ومع تزايد اشتباك وسائل التواصل وتعاظم مصالحها الانتهازية، ستزداد وسائل شيطنة الإحصائيات والأخبار والمعلومات التي تقدم.

لنذكر بأن الانتقائية، لأسباب مصلحية أو أيديولوجية، بدأت تمارس في حقول من مثل الادعاءات الصهيونية الكاذبة أو التستر الاستخباراتي وراء مواضيع حقوق الإنسان أو الأقنعة الكاذبة التي تلبسها بعض الحكومات الإمبريالية في إلصاق التهم بهذا النظام العربي أو ذاك، مثل امتلاك أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة الكيميائية.

ما الذي نستطيع فعله لمواجهة الأمر؟ الجواب هو، أولا، بعدم الاعتماد الكلي والوحيد على شبكات التواصل العنكبوتي الاجتماعي، بل التفتيش عن مصادر أخرى، كالكتاب أو المجلات العلمية المتخصصة المستقلة، أو الخبراء المشهود لهم بالنزاهة والاستقلالية على سبيل المثال، ولذلك فإن الإشارة إلى إحصائيات أو معلومات أو أخبار أو تعليقات على شبكات التواصل، بدون الإشارة إلى مصادر موثوقة ومراجعة من قبل محكمين اختصاصيين نزيهين، يجب عدم الالتفات إليها أو على الأقل اتخاذ خطوات التحقق منها.

والجواب، ثانيا، هو معرفة طبائع المؤسسات الرأسمالية الربحية والحذر من جوانبها السلبية الكثيرة. ولأن شركات الشبكات العنكبوتية قد أصبحت شركات رأسمالية، شبه احتكارية، وخاضعة لمنطق تنافس بضائع الأسواق، وقابلة للاستغلال من قبل أقليات النفوذ والهيمنة، فإن ممارسة الشك في ما تسمح وما لا تسمح به قد أصبح ضرورة قصوى. وهذا يتطلب استعمال منطق الوسائل العلمية في النظر للأمور. فالوسائل العلمية تعلم خطوات جمع المعلومات وتمحيصها وتحليلها وعدم قبول ما هو غير منطقي فيها. لو كانت مؤسسات التعليم في بلاد العرب تبني في طلابها قدرات استعمال الوسائل العلمية الصارمة تلك لشعرنا بالإطمئنان وعرفنا أن شباب الأمة سيتعاملون مع تعقيدات الشبكات العنكبوتية.

لكن مؤسسات التعليم العربية مشغولة بحشو الرؤوس بالمعلومات، وبإعادة إنتاج الثقافات المتخلفة في عقول الأجيال.هنا تكمن الأخطار، وهنا يبرز عظم المشكلة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية