في نقاش لي مع مجموعة من الشابات أتين فيه على ذكر موضوع «ملك اليمين» وكيف أن الإسلام أتى لينهي هذه الممارسة، توغلت بنا الآراء حد الألم رأيته مرسومًا على الوجوه الصبية. كانت الشابات مقتنعات أن الإسلام أنهى العبودية، في حين أخبرتهن أنا أن الإسلام لم يلغ هذه الممارسة ولم يحرمها، بل إن هناك تشريعات واضحة للعبيد والجواري لا يكاد كتاب تشريع أو فقه يخلو منها. تضاربت الأفكار عند الفتيات وبدَون وقد وقعن في مأزق نفسي لم أقصد الدفع بهن فيه. أخبرتهن أن العبودية كانت نظامًا اقتصاديًا، قميء نعم، إلا أنه كان نظامًا قويًا تقوم عليه ميزانيات معظم القبائل والمدن والإمبراطوريات، وأن عملية إلغائه المباشرة والمفاجئة لم تكن ممكنة، إذ لن يسبب ذلك إلا نفور العامة من الدين الجديد والرفض التام له من حيث أنه، لو ألغى العبودية، سيؤثر سلبًا وبشكل مباشر ومحسوس في الحالة الاقتصادية العامة.
نعم، كان هناك نظام عتق الرقبة الذي كان يشجع عملية تحرير العبيد ويربطها بأخلاقيات الدين وقيمه، بل وعباداته، وهذا منحى إيجابي جدًا في الموضوع، غير أنه كانت هناك ممارسة الغنْم الحربي جراء الغزوات (العبيد والسبايا)، التي كانت تُدخل على المسلمين أعدادًا هائلة من المملوكين أكبر بكثير من عدد المعتقين، ما عطل إنهاء العبودية في ذلك الزمان وتحت تلك الظروف.
عملية إلغاء هذه الممارسة وتجريمها أتت بعد ظهور الدين الإسلامي بما يقترب من الألف ومئتين سنة، وذلك تزامنًا مع تطور مفاهيم حقوق الإنسان وارتفاع قيمة الحياة بشكل عام، وكذلك مع تنوع مصادر الدخل وتعدد الموارد المادية التي أفسحت المجال، وإن بصعوبة كبيرة وبعد مقاومة شديدة، للتخلي عن بيع وشراء البشر كمصدر دخل. إنه قانون الحياة البشرية الذي يصنع من الحالة الاقتصادية المهيمن الأول على كل جوانب حياة البشر العملية والمعنوية والأخلاقية، حيث يكون للمادة اليد العليا في تحديد المفاهيم والقيم وتغيير ما يعتقده المجتمع صحيحًا أو خاطئًا.
يحتاج صغارنا إلى تعلم تاريخ الأديان عمومًا، لا إلى تقديس تاريخ واحد، ويحتاجون إلى فهم طبيعة العقائد المحيطة، القريبة والبعيدة، لا إلى دراسة عقيدة منفردة على أنها الحق المطلق.
لم ترتح نفوس معظم المتحاورات من الخبر ولا من شرحي لخلفيته التاريخية والاقتصادية، وأصررن على أن هناك خطأ ما في الموضوع، إما من حيث معلومتي حوله أو فهمي له. شعرت بالتعاطف الكبير وأنا أتفهم تمامًا هذا الصراع النفسي بين شابات يحملن مفاهيم القرن الحادي والعشرين وبين ما استجد عليهن من معلومة حول مفاهيم وممارسات القرن السابع. هنا، في رأيي، هو لب المشكلة الذي سبق أن أشرت إليه في أكثر من مقام ومقال. تدرِّس المدارس الحكومية، في معظم الدول العربية، التشريع الإسلامي الذي هو طبعًا انعكاس لمفاهيم مذهب واحد، بل لمفاهيم توجه واحد داخل هذا المذهب الواحد، على أنه الحق المطلق غير القابل للنقاش، كما وتزيد عليه تلقين الطلبة زاوية مشرقة من التاريخ الإسلامي تخفي أكثر مما تظهر، وتبالغ أكثر مما تعقل من الظروف والمعطيات لذلك الزمان. يكبر الصغار وفي عقولهم مسلمات غير قابلة للنقاش نظرًا لطريقة تقديم المادة الدينية، إلا أن الأشد والأمرّ هو أنهم يكبرون غافلين عن كثير من الحقائق والمشاكل والصراعات التي ما زالت آثارها تندب وجه الأمة. تخفي المناهج الدينية في عالمنا العربي الإسلامي أكثر مما تظهر، وتغالط أكثر مما تفصح، فيكبر الصغار غير واعين بما سيقابلهم من تحديات فكرية كان الأجدر أن يتم تجهيزهم لها من خلال الإفصاح عن الحقائق والتعامل مع المتناقضات الفكرية عوضًا عن إخفاء الرأس في التراب تغاضيًا عنها. طبعًا، المشكلة لا تقف حد تقديم المعلومات زائفة المثالية مغلوطة التاريخ، لكنها تمتد حد تقديم هذه المادة في مدارس حكومية يفترض فيها الحياد التام تجاه كل مواطنيها دون إعلاء دين على آخر من خلال تقديمه على أنه الحق الأوحد عبر المدارس الرسمية، حيث يفترض ترك المادة الدينية لمدارس ما بعد الفترة الحكومية التي يختارها الآباء طوعًا لا فرضًا، كل حسب قناعاته وتوجهاته.
وها هو نتاج نظامينا التعليمي والإعلامي الدينيين التعتيميين، كلاهما يرمي إلى تجميل التاريخ حد المثالية غير المصدقة، وكلاهما مفروض على العامة وعلى طلبتنا الصغار في المدارس ليكبروا بمشاعر عدائية تجاه العالم بعد اكتشافهم بعض حقائق هذا التاريخ في سن متأخرة، وذلك إما لاعتقادهم بكذب العالم على تاريخهم وإما لوقوعهم في حالة من التنافر النفسي بين العقيدة الدينية والقيم الحالية، ما يدفع بالعودة للقيم الماضية بشكل متطرف دون فهم فحواها التاريخي ودون تقييم حقيقي لسلطة التغيير القائمة على كل جوانب الحياة.
يحتاج صغارنا إلى تعلم تاريخ الأديان عمومًا، لا إلى تقديس تاريخ واحد، ويحتاجون إلى فهم طبيعة العقائد المحيطة، القريبة والبعيدة، لا إلى دراسة عقيدة منفردة على أنها الحق المطلق، وذلك ليكونوا أكثر قدرة على التعايش وفهم الآخر. العنف يولده الخوف من الآخر، والخوف يولده الجهل بالآخر، والمعلومة نور تختفي فيها عتمة الجهل وتستيقظ على حدودها الضمائر المطلعة لتنحى بحيوات أصحابها نحو السلام.