يتابع المواطن العربي في الآونة الأخيرة مواقف وتحركات وتصريحات متناثرة تسعى لجس النبض من جهة، ونشر البلبلة وانعدام الوضوح، وربما التمهيد من جهة أخرى لما يوصف بأنه إعادة تأهيل نظام الأسد، أو تعويمه أو منحه الشرعية من جديد، وأرى من الضروري أن أوضح تصورنا في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية لمثل هذه التحركات والمواقف، سواء قامت بها جهة عربية أو إقليمية أو دولية، مع التأكيد على أن هذه الخطوات بحسب قراءتنا لن تتمكن من تحقيق أهدافها، خاصة في ما يتعلق بنظام يحفل سجله بالإجرام والقتل والاعتقال والتهجير.
للانطلاق، وبدون إطالة في الحديث عن الربيع العربي والروح التي سرت في المنطقة مطلع عام 2011، وخروج المظاهرات السلمية في سورية للمطالبة بالحرية، ووقوف المجتمع العربي بعمومه والدول العربية بمجملها مع الشعب السوري، الذي تعرض للقتل والاعتقال طوال شهور عديدة؛ يمكن اعتبار القرارات الرسمية الصادرة عن الجامعة العربية نقطة للانطلاق ومعياراً للمرجعية.
قدمت الجامعة العربية في أغسطس/آب 2011 مبادرة متوازنة طالبت خلالها نظام الأسد بوقف العنف وإطلاق سراح المعتقلين، وتشكيل حكومة بالتوافق مع المعارضة، وبما يضمن الانتقال إلى نظام حكم تعددي، كما عمدت في العام نفسه، وبعد امتناع النظام عن التنفيذ؛ إلى تعليق عضويته داعية، في خطوة تصعيدية، الدول الأعضاء إلى سحب سفرائها من دمشق، وتوقيع عقوبات اقتصادية وسياسية ضد النظام. الجامعة العربية، التي تصدر قراراتها بالإجماع، وجهت في منتصف عام 2012 نداء إلى بشار الأسد للتنحي عن السلطة، وطالبت دول العالم بقطع جميع أشكال العلاقات الدبلوماسية والاتصالات مع النظام، كما أصدرت قراراً يعترف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب السوري، وفوق كل ذلك أكدت على حق كل دولة، وفق رغبتها، بتقديم كافة وسائل الدفاع عن النفس بما في ذلك العسكرية لدعم صمود الشعب السوري والجيش الحر. ساهمت هذه القرارات والمواقف والخطوات في بناء الأحداث على الساحة الداخلية السورية والساحة الإقليمية، وكان لها أثر لا يمكن إنكاره على الوعي الثوري والسياسي لدى الثوار السوريين، لكن الأمر الذي يجب أن يكون محطاً للانتباه، هو أن كل هذه المواقف العربية الواضحة والصريحة، اتخذت قبل قيام النظام بارتكاب أفظع فظائعه، وقبل أن يصبح نصف سكان سورية لاجئين أو نازحين، وقبل أن تحال إلى دمار معظم ضواحي دمشق، ونصف أحياء مدينة حلب، وأجزاء واسعة من مدن حمص ودرعا ودير الزور وإدلب والرقة، بالإضافة إلى دمار مئات البلدات والقرى في مختلف أنحاء سورية، وبالطبع صدرت تلك المواقف والقرارات أيضاً قبل أن يتجراً النظام على الخط الأحمر الشهير والمزعوم والمتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية، وبالطبع قبل أن يتحول استخدامها إلى استراتيجية عسكرية منهجية ومتكررة بشهادة أهم المنظمات الدولية. وبدلاً من إقرار خطوات أو تحركات نحو تصعيد جديد ضد النظام للتعاطي مع خروقاته وجرائمه ضد الشعب السوري وضد الإنسانية، والدفع من أجل حل سياسي يفتح الباب أمام مستقبل بلون مختلف، نجد صمتاً وشللاً في العمل الجماعي، كما نلحظ من يتحرك بشكل منفرد في اتجاه مغاير لما هو متوقع أو مطلوب.
وبدلاً من تحريك الجهود الدولية من أجل تحويل المجرمين إلى المحكمة الجنائية الدولية، تأتي بعض التوجهات في الدفع نحو مكافأتهم، ما يعني أيضاً دعماً للنظام الإيراني الذي شاركهم في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري.
التساؤلات تتزاحم:
الثورة السورية مستمرة في نضالها والسوريون يراهنون على الحق والعدالة والكرامة وسيتمكنون من ابتكار الوسائل الكفيلة بانتصار ثورتهم
*لماذا ترويج بعض المنصات الإعلامية لتغيرات في المواقف السياسية تجاه نظام ارتكب كل ذلك، وصدرت بحقه كل تلك القرارات من الجامعة العربية، وهو متهم بارتكاب الفظائع من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري من أهم المنظمات الدولية؟
*لماذا تبدو عتبة قرارات الجامعة العربية قبل عام 2013 عالية جداً جداً.. مقارنة بمواقفها اليوم؟
*هل هذه حقاً تغيرات سياسية حقيقية؟
*هل هي بالونات اختبار تسعى لتغيير المزاج الجمعي لشعوب المنطقة لتصبح أكثر تقبلاً لتغييرات من هذا النوع وتغييرات أخرى مشابهة؟
*هل هي تمهيد لوعي عربي جديد قادر على التصالح مع أشد الفظائع فظاعة وتقبلها بصدر رحب؟
في محاولة لتبرير قيام بعض الدول بخطوات تتنافى مع تعهداتها، أو تتصادم مع المبادئ الإنسانية أو الأخلاقية أو الدينية، يكرر المحللون السياسيون مقولة مفادها إن الدول والحكومات ليست جميعات خيرية، وإنها تعمل وفق مصالحها فقط. ماذا يعني إذن أن تلتقي مصالح دولة ما، مع مصالح نظام لا يتحالف إلا مع القتلة والمجرمين والأنظمة المارقة؟
تحمل هذه التساؤلات إجاباتها، وتكشف قصر نظر كل من يرفض الاعتبار بالتاريخ القصير والتاريخ الأطول.. ويحاول تجنب الالتفات إلى الأمس.
الخلاصة التي لا بد من تأكيدها هي أن كل من يتوجه أو يروج لما يمكن أن يفتح الباب من أجل إعادة العلاقات مع نظام الأسد، إنما يرتكب خطأ استراتيجياً فادحاً ويتحرك نحو أفق مسدود، وهو خطأ قد ينال من أهلية الأطراف التي تربط نفسها بالنظام، فينقلها إلى فضائه المسموم، أكثر من قدرتها على تعويمه أو إعادة الأهلية له. كل من يظن أنه ينحاز إلى الطرف المنتصر، بغية تأمين جزء من الغنائم وضمان موطئ قدم، ولو على حساب دماء ملايين الشهداء ودموع الأمهات، إنما يعيش وهماً مركباً، ويضع نفسه في موقع مشبوه، ويفتح الباب أمام قدر كبير من الشكوك تجاه علاقته مع هذا النظام بكل ما له من سجل في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. لا شيء يمكنه أن يعيد الشرعية لنظام مجرم مسؤول عن ملايين الضحايا والمعتقلين والمهجرين.. نظام ارتكب المجازر باستخدام الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة.. نظام فضّل بيع سورية على إعادتها للسوريين.
الجانب الكارثي الذي سيترتب على خطوات فردية غير محسوبة سينكشف بسرعة وسيتضح أنها تتحرك على طريق لن يأخذ المنطقة إلا نحو مزيد من الخراب والكوارث. ورغم ثقتنا بأن مثل هذه الخطوات لن تعيد للنظام أي شرعية حقيقية، فهو لم يمتلك قط سوى شرعية الانقلاب والمعتقلات والسجون وغرف التعذيب، إلا أننا نخشى أن مثل هذه الخطوات قد تنال من شرعية أصحابها. حتى هؤلاء الذين يبررون تحركاتهم تحت يافطة مواجهة النفوذ الإيراني وفكفكة علاقة النظام بإيران، ويسوقون مثل هذه المبررات لإعادة العلاقات مع النظام وإعادة تأهيله يقعون في خطأ جسيم. إذ يعلم الجميع أن علاقة النظام بإيران عميقة ومتجذرة وقديمة، وأن أبعادها تتجاوز المصالح الراهنة لما هو أبعد، وأنها تطورت خلال السنوات الماضية لتصبح ذات طابع عضوي مصيري بين النظامين الأسدي والإيراني. المحصلة أن هذه اليافطة مثقوبة وخادعة، وأنها مجرد وسيلة لتبرير فعل لا يمكن تبريره.
الشعب السوري تجاوز منذ وقت طويل نقطة اللارجعة، صموده طوال 8 سنوات في وجه نظام البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية والمسالخ والمعتقلات والمشانق، يجب أن يكون إشارة واضحة للجميع أن التفكير بإعادة تأهيل النظام سيجر كارثة غير مسبوقة على المنطقة والعالم، وأن كل الاهتمام يجب أن ينصب على الطريق الوحيد السالك، وهو مسار الحل السياسي الذي دعمته قرارات الجامعة العربية، والذي تدعمه قرارات مجلس الأمن الدولي وعلى رأسها القرار 2254، وفق بيان جنيف1. أي محاولة لتعويم النظام تعني بالضرورة تكريماً للقتلة والمجرمين، ودعماً لمشروعهم من أجل تكريس الاستبداد والعبودية والفساد والإرهاب والاضطهاد، مقابل تغييب إرادة السوريين وحرمانهم من حقوقهم، وتحالفاً ضد مشروعهم من أجل نظام ديمقراطي يؤمن بالتعددية والعدالة والمساواة. من اللافت أن أطرافاً دولية فاعلة جددت في الآونة الأخيرة التأكيد على مواقفها المبدئية وعلى رفضها لجرائم النظام، وأي محاولات لإعادة تأهيله، أو تعويمه، أو القبول به، هذه المواقف تستحق الإشادة فهي إيجابية ومنسجمة مع متطلبات الحل السياسي، ونحن على ثقة بأن جميع الدول التي عبرت عن دعمها الصادق لحقوق الشعب السوري وتطلعاته ستلتزم بمواقفها ولن تتأثر بأي أصوات منفردة تسعى لتوفير أي نوع من التغطية لنظام الأسد.
الثورة السورية مستمرة في نضالها.. والسوريون يراهنون على الحق والعدالة والكرامة.. وسيتمكنون من ابتكار الوسائل الكفيلة بانتصار ثورتهم، فهم لا يزالون مؤمنين بأهدافهم وتطلعاتهم.. وإذا كان هناك من يراهن على أن الإجرام حق، وسفك الدماء حق، واعتقال الشعوب حق، وتهجير الملايين حق، واستخدام الأسلحة الكيميائية حق، فهذا شأنه.
رئيس الائتلاف الوطني السوري