ولّى العالم وجهه شطر الغرب، وتحديدًا نحو نيويورك، مسرح الحدث السياسي الأبرز: انعقاد الجمعية العمومية للأمم المتحدة واجتماع مجلس الأمن. ووسط الحشد الهائل من الرؤساء والملوك والأمراء ورؤساء الحكومات الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، كانت ثمة وجوه محددة وقليلة استوقفت مندوبي القنوات التلفزيونية، وهي وجوه مثيرة للجدل سواء في بلدانها، أو على المستوى العالمي.
أولها طبعا، هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي حضر لهدف واحد لا غير: الضغط على إيران من أجل التخلي عن برنامجها النووي، لكنه لم يحصل على الدعم المنشود، مثلما علّق أحد إعلاميي قناة “فرانس 24″، لتردّ عليه صحافية عربية ذات جنسية أمريكية: إن ترامب جاء ليرأس مجلس الأمن الذي خَصص اجتماعه للموضوع الإيراني.
بعض الإعلاميين العرب ـ ومن بينهم الصحافية المومأ إليها ـ انطلى عليهم «سحر» الساحر الأمريكي الأشقر، فطفقوا يرمون عليه أزهار الأوصاف الحميدة، من قبيل اللياقة والهدوء ورباطة الجأش… وتجاهلوا أن تلك الصورة غير المعهودة التي بدا عليها دونالد ترامب، وهو يرأس اجتماع مجلس الأمن، مدروسة ومرتّبة بعناية من طرف فريقه لحاجة في نفسه، حتى إنه اكتفى بالردّ على رئيس بوليفيا الذي تهجم عليه كلاميا بالقول: “شكرا سيادة الرئيس”.
غير أن تلك الحالة لم تكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث هدد ترامب الدول التي لا تنخرط في العقوبات ضد إيران ـ بدءًا من 5 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل ـ بعواقب وخيمة. ولا غرابة في ذلك، فهو يستعمل دائما لغة الأقوى المعتزّ بنفسه وبقدراته القتالية. وانطلاقا من الانتشاء بـ«جنون العظمة»، يعتبر أنه حقق لبلاده خلال عامين فقط ما لم يحققه أي رئيس أمريكي آخر قبله (وربما لن يحققه بعده). كلام ردّده أمام قادة العالم في اجتماع الأمم المتحدة، فأثار موجة من الضحك داخل القاعة، وهو ما أصابه بالإحراج على ما يبدو، فقال: “لم أتوقع ردة الفعل هذه”. وبقدرة قادر تحوّل الضحك إلى تصفيق. هذه الواقعة خصصت لها قناة “بي بي سي” إحدى الحلقات من برنامجها “ترندينغ”، ورصدت ردود الفعل المختلفة في شبكات التواصل الاجتماعي حول كلمة ترامب، ما بين مُنتقد لها ومفتتن بها، حتى بين الأوساط العَربية.
الشخصية الثانية التي كانت محور الاهتمام الإعلامي في نيويورك: الرئيس الإيراني حسن روحاني. ومن ثم، لم يكن مستغربا أن تهتم به القناة الروسية الناطقة بالعربية، حيث نقلت كلمته برمّتها، مصحوبة بترجمة فورية إلى لغة الضاد. وفي ما يشبه الردّ الضمني على تهديدات دونالد ترامب، أكد روحاني على ضرورة التخلّي عن سياسة التهديد، مشيرا إلى وجود “رؤساء ذوي نزعة قومية متطرفة تقوم على كراهية الأجانب، تقترب من النزعة النازية”، بحسب قوله.
وبينما كان صوت المتحدث الإيراني يصل إلى المشاهدين، كانت الكاميرا تركّز من حين لآخر على وجوه ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية في الجمعية العمومية، إذ لم يستطيعوا إخفاء نظراتهم الحادة وسحناتهم المتجهمة، فكان ذلك كافيا للتعبير عمّا تُضمره النفوس، دون حاجة للخطب الطويلة.
استقبال فخامة الرئيس “واجب ديني”!
أما الشخصية الثالثة التي استرعت باهتمام متتبعي قمة الأمم المتحدة، فهو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. لكن مردّ هذا الاهتمام لم يكن راجعا لكلام سيادته ولا لمواقفه (إن كان له كلام أو مواقف)، وإنما راجع إلى “الزفة” التي سبقت ذهابه إلى نيويورك ومقامه فيها. ووجدت بعض القنوات العربية التي تترصد “سقطات” السيسي ومهازله، الفرصة سانحة للّمز والهمز وفضح المستور. ذلك ديدن “الجزيرة” و”الشرق” و”مكملين” وغيرها من القنوات الموصوفة من طرف النظام المصري بدعم جماعة “الإخوان”، وفقًا للقاعدة الذهبية (الحكيمة) التي يقول: كُلُّ مَن يُعارضنا وينتقدنا فهو إخواني، حتى ولو كان علمانيا أو ليبراليا أو ممن تبقى من أتباع ماركس ولينين وماو تسي تونغ!
هكذا، إذن، انتقدت تلك القنوات وجود إعلانات ترويجية للسيسي في أرقى أحياء نيويورك، بهدف تجميل صورته، مع أن الأموال الباهظة التي رُصدت لتلك الإعلانات كان أولى وأحرى أن توجّه لحل إشكالات اجتماعية مرتبطة بمعيشة المواطن المصري. واللافت للانتباه أن محاولة تلميع صورة السيسي تأتي في وقت تؤكد فيه المنظمات الدولية والتقارير الإعلامية المحايدة وجود انتهاكات للحريات ولحقوق الإنسان في أرض الكنانة على عهد السيسي، بالإضافة إلى استمرار التدهور الاقتصادي.
وعلى غير العادة، لوحظ غياب جوقة الفنانين والإعلاميين الموالين للسيسي عن استقباله في نيويورك، مما استدعى القيام بمحاولة لحشد الجالية المصرية المقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل تولّي الأمر وإنقاذ ماء الوجه والهتاف بحياة الرئيس. لكنّ المسألة المثيرة أن يحشر رجال دين أنفسهم في هذه المهمة، من خلال القيام بـ”مشهد تسوّلي مقزز”، على حد تعبير الإعلامي معتز مطر، وصوّرت الكاميرا أسقف الكنيسة القبطية، وقد شدّ الرحال من القاهرة إلى نيويورك، ليجتمع بنفر من الجالية المصرية المسيحية في نيوجيرسي وفي مدن أمريكية أخرى، ويترجّاهم ويستجديهم أن يتوجهوا إلى نيويورك لاستقبال وتحية فخامة الرئيس، كما لو أن الأمر يتعلق بواجب ديني لا مناص من أدائه. وزاد الأسقف على النفحة الدينية إغراء ماديا بقوله: “روحوا تشوفوا نيويورك بدل نيوجيرسي”، ووعدهم بحافلات تقلّهم مجانا، وأيضا بما لذّ من “سندويتشات” و”عصير” و”حاجة ساقعة”!
حكومة العثماني ومصرع “حياة”!
وفي نيويورك أيضا، كان المغرب ممثلا تمثيلا شكليا فحسب، من خلال رئيس الحكومة ووزير الخارجية ومرافقيهما. والظاهر أن مندوبي وسائل الإعلام الرسمية المغربية، ممّن شغلهم الشاغل هو ممارسة المهنة بالاحترافية المطلوبة وليس السياحة في بلاد “العم سام”، كانوا يجدون أنفسهم في حرج شديد، بالنظر لاقتصار الحضور الحكومي المغربي على إلقاء كلمات رسمية جافة ولقاءات بروتوكولية. ومَن يتابع جل التغطيات الإخبارية سيجد نفسه أمام كلام إنشائي فضفاض.
والحال أنه كان أجدر برئيس الحكومة ومن معه المكوث في المغرب وعدم إضاعة المال العمومي في تكاليف التنقل والإقامة والتعويضات، وفي المقابل الانكباب على الملفات الاجتماعية الحارقة، وفي مقدمتها ملف البطالة والهجرة السرية، الذي أودى ـ هذا الأسبوع ـ بحياة شابة في مقتبل العمر، اسمها “حياة”، كانت ترغب في الوصول إلى أوربا من أجل العيش الكريم، فتعقبتها رصاصات القوات البحرية، لترديها قتيلة أو “شهيدة” بتعبير رواد الشبكات الاجتماعية.
كل الخطب تتهاوى. كل الشعارات تسقط. كل الكلمات تتلاشى، أمام رصاصة توجّه إلى مواطنة، لا ذنب لها سوى أنها أرادت أن تهجر وطنها الذي لم يوفر لها رغيفا وكرامة وراتبا!
كاتب من المغرب