تقاسيم على مقام الاستبداد

حجم الخط
0

شكا لي أحد جيراني أنه في كل مرّة يتوجه فيها الى مكتب مسؤول الموظفين طالباً علاوة يستحقها منذ زمن لا يحصل إلا على أطروحة عن الاقتصاد العالمي. يشرح له سعادة المدير ظاهرة التنافسية التي تشتد يوماً بعد يوم في ظل العولمة التي حولّت العالم الى قرية صغيرة.
بيت القصيد أن الميل العام لتوجهات السوق تفرض خفض الأكلاف لا رفعها ولا سيما تلك التي تتعلق بالأجور أساساً. وبالتالي فإن صاحبنا وبدلاً من أن يحصل على علاوته المفترضة والمأمولة نال، وهنا الأنكى، درساً في إدارة الميزانية المنزلية وكيفية المواءمة بين المطلوبات والموجودات. وبدلاً من أن تكون المشكلة مشكلة الشركة التي ترفض تطبيق القانون والحق تحوّلت الى مشكلة قلة دربة الجار وزوجته في إدارة الموارد العائلية.
دخل الجار الى مكتب المدير صاحب حق لكنه خرج غبياً في كيفية صرف أجره. ذكرني ذلك بما يجري في بلادنا حالياً من صراعات تشبه الى حدٍ كبير قصة هذا الجار. فلقد تم إقناعنا بأن مشكلتنا الأساس تكمن في الاستبداد الذي يمارس علينا من داخلنا وأن الانتفاض على هذا النمط من الحكم وإسقاطه سوف يؤديان الى إقامة أنظمة بيضاء مهفهفة ملؤها الديمقراطية وتداول السلطة مما يسمح بتفتح الطاقات الكامنة لكن المعطلة في قلب مجتمعنا.
المشكلة إذن مشكلتنا وتتمثل بنوع من الاستبداد والطغيان الذي يعيق من الداخل ‘إدارة الميزانية’. لكن أصحاب هذا الطرح ربما نسوا أن يشرحوا لنا فحوى الاستبداد هذا في بلادنا. نسوا أن يقولوا لنا إن كان هو هو في جميع بلداننا أم أن هناك فروقات وتمايزات معينة بين بلد وآخر. نسوا أن يقولوا إذا كانت أسباب الطغيان ثقافية، دينية أم اجتماعية اقتصادية. كما نسوا أن يعينوا القوى الاجتماعية التي تقف خلف هذا الطغيان ولأي سبب. بدا الطغيان، من خلال هذا الطرح، وكأنه معطى مطلق نشأ مع نشوء مجتمعاتنا. أو كأنه سمة من سمات حضارتنا أو ديننا أو ثقافتنا .
بدا الطغيان كأنه لوثة تصيب كل حاكم عربي أيا كانت أفكاره السياسية، يمينية أم يسارية، ليبرالية أم اشتراكية، واياً كان شكل الحكم، ملكيا أم جمهوريا، دستوريا أم مطلقا. كله مصاب بالمرض ذاته والدواء معروف وموجود في جميع صيدليات العالم الغربي ما علينا إلا اقتناءه وتناوله فنشفى .
ولنعترف بأن في الإطلاق هذا ما يثير الريبة والشك. على الأقل من الناحية المبدئية والنظرية. فكيف يمكن من دون التجني الفعلي على الواقع أن نعمم سبباً يتعلق بشكل الحكم على أزمة تصيب دولاً عدة مترامية الأطراف ومتفاوتة التطور والحجم ومختلفة الأنظمة السياسية والأهواء والمشارب؟ وفيما عدا استعمال مصطلحات عمومية جداً مثل الشعب والنظام فلا يمكن فهم من هي القوى الاجتماعية المستفيدة من شكل حكم مستبد مطلق، من النظام، ومن هي القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في إسقاطه وبناء الديمقراطية.
أما والحال كذلك فما هي الضمانات التي حصل عليها أصحاب هذا الطرح من ‘الشعب’ لكي يضمنوا ولاءه للديمقراطية وعدم إصابته باللوثة ذاتها طالما أنها تهيم بالمحيط كله وعلى نحو مطلق. هذا طبعاً من الناحية المنهجية والنظرية، أما من الناحية العملية فقد دلت النتائج الأولى لهذه الانتفاضات حتى الآن على أن البديل، ‘الشعب’، ليس أقل إصابة بالطغيان من الحكام السابقين. وأما استعمال الصندوق الانتخابي في بلاد تسيطر على عمرانها البشري الجماعات لا الأفراد فلم يكن ضمانة كافية لإرساء النظم الديمقراطية بل العكس.
من منا يستطيع ان يتجاهل تركيبة بلادنا الاجتماعية ليقول إن الانتخابات عندنا هي خيار الفرد الشخصي يتخذه وحده داخل ‘الغرفة السرية’ أو ‘العازل’ المخصص لذلك. أضف أن المرشح في غالب الأحيان ليس مرشحاً لبرنامج أو لفكرة أو لمشروع بل مندوباً عن جماعة طائفية أو سلالية تنتدبه ليمثلها ويمثل حصصها في السلطة.
لست طبعاً بمعرض إنكار وجود الطغيان الاستبدادي الذي يميّز الحكم في بلادنا الجميلة. ابداً لكني أحاول أن أرى الى هذا الطغيان بتاريخيته، بانخراطه في إطار اجتماعي سياسي ملموس بدل تركه فكرة هائمة مطلقة لا تشرح ولا تشير الى حل. أن يكون هناك استبداد لا يعني بالضرورة والمبدأ أن يكون هو المسؤول عن البنية الاجتماعية المتأصلة في البلاد او حتى عن بقائها. العكس على الأغلب هو الصحيح. أن يكون هناك استبداد لا يعني بالضرورة أن يكون مسؤولا عن التخلف الاقتصادي وتبذير الموارد وفقدانها والدليل هو قيام امبراطوريات اقتصادية متطورة جداً نظامها لا يزال ديكتاتورياً مثلاً.
أن يكون الاستبداد موجودا يعني أن هناك قوى اجتماعية معينة، لا أفرادا أو أسرا، لها مصلحة عقلانية في إرساء هذا النوع من الحكم القهري وهي ليست بلهاء ولا مريضة. وأن لا ضمانة لأن تكون القوى المواجهة لها من غير طينتها ذاتها.
لقد بات من شبه المؤكد اليوم أن الصراع من أجل إحلال الديمقراطية وإسقاط الدكتاتوريات قد قادت البلاد، بدءا من العراق وصولاً الى جميع الدول التي طالتها الانتفاضات الربيعية، الى فتن وحروب أهلية مفتوحة. وهو أمر بدهي، متوقع، وطبيعي. ففي مجتمع الجماعات كل إسقاط للنظام هو فعلياً إسقاط لجماعة لمصلحة جماعة أخرى مما يؤدي الى إسقاط المجتمع ككل في بحور من الدماء.
أن يكون الإستبداد موجوداً في بلادنا الجميلة لا يعني بالضرورة أنه أساس المشكلة بل قد يكون متفرعاً عنها. المشكلة قد تكون عند ذلك الذي يردينا أن نفتش عنها في دواخلنا،عند الذي يرغب بان ندخل أصحاب حق ونخرج أغبياء.. في إدارة المنازل.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية