هل يصحّ اللجوء إلى مفردة شتان، كصيغة تفضيل أو مقارنة، بين انسحاب النوّاب الصدريين الـ74 من البرلمان العراقي مؤخراً، وعبر الاستقالة القاطعة وليس عن طريق حلول التفافية مثل تجميد العضوية أو الاعتكاف مثلاً؛ وبين انسحاب أنصار الصدر من معظم ساحات الانتفاضة الشعبية العراقية، قبل سنتين ونيف، وتحوّل رجاله مرتدي القبعات الزرق إلى الصفّ المضاد للمتظاهرين، إلى درجة الانخراط المباشر في تفريق الاعتصامات باستخدام أدوات تبدأ من العصيّ ولكنها أيضاً تنتهي بالرصاص الحيّ؟
ما يصحّ هنا أو يخالف بصدد الـ»شتان» هذه ليس، أغلب الظنّ، أفضل ما يُباح استدعاؤه على سبيل قراءة، وإعادة قراءة، تقلبات مقتدى الصدر، إذ أنّ السجلّ هنا ليس حافلاً وحمّال أوُجُه متقاطعة متعامدة متناقضة متباينة، فحسب؛ بل هو صورة طافحة بالمغزى والتمثيلات عن جوهر السيرورة السياسية التي سادت في العراق بعد الاجتياح العسكري الأمريكي سنة 2003 عموماً، واشتراطات دستور 2005 حول حصص رئاسات الدولة الثلاث، في الجمهورية والحكومة والبرلمان، بصفة محددة.
وبالعودة إلى السابقة الأولى، أي سحب الأنصار ونشر القبعات الزرق للتنكيل بالمنتفضين، للمرء أن يستذكر تلك الفقرة الثمينة من بيان اللجنة التنسيقية لشباب الانتفاضة:
«لم نخرج بفتوى دينيّة ولم نخرج بتغريدة صدريّة، فلا يُراهن مقتدى وأنصاره على نفاد صبرنا ونهاية ثورتنا. ركبَ موجتنا فركبناه وحاول استِغلالنا فتجاوزناه». فقرة أخرى، ترسم مستقبل العلاقة: «باقون في الساحات حتى تحقيق أهداف الثورة، ولن نخذل دماء الشهداء، ولن يكونوا ورقة على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر»؛ ثمّ تتويج أفق القطيعة الآتية، عن طريق اتهام الزعيم الشيعي بـ«خيانة الثوار» ووصمه بـ«الخزي والعار».
وعلى نقيض ما قد توحي به الحال الراهنة بعد استقالات النواب الصدريين من البرلمان، لا ترى هذه السطور مفارقة فاضحة في أن يعود أصحاب القبعات الزرق إلى الشوارع مجدداً، ليس لتفريق الاحتجاجات هذه المرّة بل على العكس: لإطلاقها وحشدها والإشراف على تنظيمها والسهر على حمايتها؛ إذْ أنّ تطوراً مثل هذا هو اختصار واحد من السيناريوهات المرجحة حول الخطوة التالية للصدر، في توظيف الاستقالات وحشر «الإطار التنسيقي». ورعاة الإطار كانوا الخاسرين في صناديق الاقتراع، وهم على وشك حيازة صفة الرابحين إذا تمّ استبدال الصدريين المستقيلين بالمرشحين الخاسرين الأعلى نسبة في الانتخابات الأخيرة (نحو 50 مقعداً، تُضاف إلى 83 حالياً)؛ لكنهم ليسوا سعداء تماماً بهذه الحصيلة، إذْ يصعب أن يصدّقوا أن تأتيهم مثل هذه الهدية الثمينة من الصدر، بلا مقابل.
على خلفية سابقة أخرى، لا يلوح أنّ تطورات العراق خلال العقد الأخير قد طوت ذلك «النواس»، الأقرب إلى التعبير الأجنبي حول الـZigZag، في انتقال الصدر من نقيض إلى نقيض؛ خاصة عندما تضيق مساحة نفوذ هنا أو يجفّ منبع تمويل هناك، كأنْ يتسبب انقطاع «المال الطاهر» الإيراني في تخفيض المخصصات والرواتب. فإذا لم يذهب زعيم التيار إلى السعودية، في زيارة اعتبرها ثامر السبهان، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية يومذاك، فرصة للتفريق «بين المذهب الشيعي الأصيل، ومذهب الخميني المتطرف الجديد»؛ فإنه يرسل مقاتلي «لواء اليوم الموعود» إلى سوريا لمساندة نظام بشار الأسد، حيث يظهر بعض أنصاره في أشرطة فيديو حماسية تستصرخ أخذهم للجهاد في الشام!
ليس خافياً، إلى هذا وذاك ضمن عناصر الموقع الصدري في مآزق المشهد العراقي السياسي والدستوري الراهن، أنّ خطوة الصدر تُلقي بـ74 حجراً ثقيلاً في المستنقع؛ ولكن ليس عسيراً على التكهن، في المقابل، أنّ هذه الأحجار ليست كفيلة بتحرك الركود إلى درجات كافية، والمنتظَر هو ما ستفعله مراهنات صدرية أخرى في قلب شوارع الاحتجاج العراقية، سواء انتمت أصلاً إلى الانتفاضة الشعبية الأمّ، أم نجح التيار في… إعادة استنساخها!
حركة الحجاج المتذبذبة التي اتخذها الصدر، هي انعكاس واضح لتذبذب الحياة السياسية في العراق، بل في العالم العربي عموما، فكل السياسيين وكل التيارات السياسية سواء التي كان لها نفوذ شعبي أم كانت تقتصر على النخبة من مريديها، تحاول تعبئة الشارع وتجييشه بكل وسيلة تتمكن منها في حال لم تظفر بمغانمها السياسية، وبالعكس من ذلك تحاول إسكات كل صوت معارض لها وإن كان ذلك على حساب كل المبادئ الإنسانية المتاحة للتعبير، وهذا ما يختصره المثل العراقي: (لو ألعب لو أخرّب الملعب) شكرا لكم استاذ صبحي حديدي الناقد الحصيف والمحلل الدقيق للواقع السياسي والثقافي والأدبي.. متابعكم من العراق